في محاولة لخلقِ مقاربة جديدة للنسيج الحركي والفكريّ لعرض «مئذنة» (minaret) الذي شاهده الجمهور اللبناني في افتتاح الدورة 15 من «بايبود» (مهرجان بيروت للرقص المعاصر)، وما يزال يُشارك في مهرجانات وفعاليَّات أوروبيّة، آخرها منذ أيَّام في مهرجان tanz moderne tanz في «كيمنتس» الألمانية، يضرب الراقص والكوريغراف اللبناني عمر راجح موعداً جديداً للمهتمّين بالرقص المعاصر، عند الثامنة والنصف مساء اليوم، ليقدّم «طيات الكون» (Origami Cosmos). يندرج العرض الجديد في إطار أنشطة تنظّمها فرقة «مقامات» في شهر حزيران (يونيو) في الفضاء الثقافي المُهدى إلى فنون الأداء «سيترن بيروت».لا يحتاج «الأوريغامي» (أو فنّ لفّ وطيّ الورق) سوى إلى ورقة مربّعة، لتنفيذ عدد لا متناهٍ من الأشكال. مع كلّ طيّة أثناء مسار العمل، يتغيّر شكل هذه الورقة باستمرار، من دون أن تتغيّر ماهيّتها. وفي السياق عينه، ثمّة مفهوم للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995) في كتابه «الطيّة» يرمي إلى أنّ «أيّ واقعة، مهما كانت فظاعتها، ما هي سوى طيّة جديدة في نسيج العالم، وأنّ كلّ الوقائع متماثلة، تأتي من أجل طيّ، بكيفيّة ثانية، ما هو موجود أساساً».
عنوان كتاب دولوز ومفهومه كانا «متكأ» الراقص اللبناني عمر راجح في تسمية عرضه الجديد «طيّات الكون»، وأيضاً في إعادة الاشتغال على مواد «مئذنة»، وخلق معاني جديدة لحدث تدمير مئذنة الجامع الأموي في حلب سنة 2013. تذهب حركات أجساد ستّة راقصين بعيداً في تصوير الانكسار والذوي في «مئذنة» على إيقاع موسيقي وصوتي ينطلق من الموسيقى والأغنيات العربيّة التي تذكر بمدينة حلب، مع أربعة موسيقيين على المسرح. يدور العرض، بمعيّة الـ«فيديو آرت»، الذي يستخدم طائرة «درون» تدور فوق رؤوس المؤدّين والجمهور، وتلتقط الصور لهم، وتعرضها على المسرح. «بوتقة» الفنون المختلفة في المسرح تخلق الأفكار؛ حركات أجساد الراقصين تختزل الخراب، وترسم الرمز الإسلامي، وقد استحال إلى كومة من التراب، ولا تبقي الجمهور ساكناً إزاءها، بل قد تُغضبه، أو تحثُّه على مساءلة نفسه عن دوره في هذا الشرق المنكوب، أو تخلخل أفكاره... أمّا في العرض المرتقب الليلة، فيرقص راجح بمفرده على المسرح، ويرافقه الموسيقي بابلو بالاسيو، حيث سيضع الأخير على جسد الراقص اللبناني مجسَّات. ووفق حركة الراقص ستتولَّد الموسيقى. سيحاول الفنَّانان نقل حركات الجسد والأصوات إلى منحى آخر مختلف عن تحديداتهما.
في أعمال راجح الراقصة، الكثير من الارتجال والتجريب، ومحاولات لاستنباط المعاني من المعاش اليومي، حتّى الوصول إلى فتح آفاق جديدة، فالمسار الفنّي عبارة عن بحث وتجريب دائمين وفق ما يقول لـ «الأخبار». يقول في هذا الإطار: «الأساس في الرقص هو خلق احتمالات لا متناهية من المعاني والصور والأفكار، التي تبحث في الحياة ورؤيتنا لهذه الحياة»، مُضيفاً أنّ «الجسد من هذا المنطلق ليس جسداً واحداً بل عبارة عن أجساد عدّة تتفاعل وتتضارب وتتنافر لتشكّل المعنى أو الحالة الوجودية». ويلفت إلى أنّ «الرقص على المسرح يذهب أبعد من الحركة، بل هو حوار بين كلّ أنساق الجسد، واحتمالات الجسد المرئية والمتخيلة، وهذه الاحتمالات يتمّ تأويلها، في تجربة حسيّة من قِبل المتلقّي». استرجاع دولوز، الذي أثَّر كثيراً براجح، يحيلنا هنا إلى «أنّ المفاهيم تحتاج إلى قوام (سطح) تستند إليه، وتتحرّك فيه. لا يمكن إدراك أيّ مفهوم من المفاهيم سوى داخل شبكة من الإحالات والتشابك بين هذه المفاهيم بشكل متوارٍ عن وجود السطح».
على برنامج أجندة «سيترن بيروت» الخاص بشهر حزيران أيضاً، «لوحة راقصة» قوامها الحروف والأفعال والأصوات، بعنوان «الجسد أبجدية الأصوات»، من إعداد «دار قنبز» وندين توما، وبدعم من مبادرة «حسن الجوار» في «الجامعة الأميركيّة في بيروت». جرّدت الكاتبة والناشرة وصاحبة «دار قنبز» ندين توما ما في القاموس العربي من أفعال مكوَّنة من حرفين مكرَّرين، كـ «تكتك» و«وشوش» و«مأمأ»، و«قصقص» و«بسبس» و«لعلع»... الأفعال التي أسمتها «الأفعال الصوتية» هي التي ـ عند لفظها، ومع تكرارها لمرَّات بسرعة ـ يسمع لافظها صوتها (وش وش وش وش، في فعل وشوش، مثلاً). سبق أن مَعجَمت توما هذه المفردات في «أصوات الأبجدية» الصادر عن «دار قنبز»، وستوزّع نسخاً للجيب منه على الحاضرين في العرضين المنتظرَين، والموجّهين إلى الفئة العمريَّة من 6 إلى 88 سنة. ستدفع الأفعال المذكورة الصغار والمراهقين والشباب والمسنين إلى الدخول في تجربة تجمع حركة الجسد مع الأصوات والسمع. علماً أنّ للصمت مطرحاً أيضاً في العرضين.
من مميّزات «الجسد أبجدية الأصوات»، أنَّه في كلِّ مكان يدور فيه يمتلك نكهة خاصَّة، كما حين قُدّم قبلاً في حرج بيروت وفي مرفأ الصيّادين في عين المريسة. أما في «سيترن بيروت»، فسيركّز على الحركة والرقص، بالانسجام مع دور هذا الفضاء الثقافي في حضن فنون الأداء.
توما المسكونة بهدف محاربة النفور من اللغة العربيَّة، لا تكفُّ عن البحث في كلّ ما يقرِّب اللغة من الأطفال عبر كتب «دار قنبز» وأنشطتها. أساس «الجسد أبجدية الأصوات» كان سؤال توما: «هل نستطيع أن نبني مشروعاً كاملاً باللغة العربية، حيث كلّ من الفكرة والمضمون والشكل والخط والتصميم يتبع تيّار الحركة البنائية التابعة للباوهاوس؟». انطلاقاً من هذا السؤال، ولد كتاب «طابتي» عن قصّة دائرة حمراء بين الحيطان تضجر، مكتوبة بلغة عربية مبسطة. وقد حصد الكتاب مجموعة من الجوائز. الخط في كتاب «طابتي» مبني على أشكال هندسية، واللغة العربية مبنية على اللفظ والسمع واللمس والنظر. وعندما اجتمعا ولد كتاب «أصوات الأبجدية».
ستُوزَّع نسخ للجيب من «أصوات الأبجدية» في عرضي «دار قنبز» الموجّهَين إلى الفئة العمريَّة بين 6 إلى 88 سنة


تستعير توما المفهوم التبسيطي من مدرسة الـ «باوهاوس» في مشروعها، وأيضاً دور هذه المدرسة الألمانية بين الفنون الحرفية والفنون الجميلة، في العرضين المرتقبَين، لناحية الدمج بين الحركة واللغة والصوت. وعلى غرار البعد عن التزويق في عمارة «الباوهاوس»، والعودة إلى الأشكال الهندسية المحدّدة، فإنّ الخط الذي كُتب فيه الكتاب، ويحتاج إلى التأمل طويلاً، ليس سوى مربعات ودوائر وأنصاف دوائر. تقول توما لـ «الأخبار»: «العرض الذي يمتدّ على ساعة ونصف الساعة يهدف إلى إيقاف جريان الوقت لعيش تجربة بالحواس يكون الجمهور فاعلاً فيها، ويجتمع بكلّ أعماره بعيداً عن طاولة الأكل، للعب والرقص و... بالاتساق مع فلسفة «دار قنبز»». من اللغة وحركيتها إلى الرقص مجدّداً مع عرض POV للراقص والمصمّم الأميركي اللبناني جاد تانك، الذي سيؤدّيه رقصاً برفقة ميا حبيس (صمّمت أزياء العرض أيضاً). إذا رأى فردان مشهداً ما، سيأوّله كلّ منهما على طريقته، والأمر ينطبق على تفاصيل الحياة؛ هذه هي فكرة عرض POV (اختصار لـPoint of View | «وجهة نظر»)،
سيوضع مسرح «سيترن بيروت» أثناء العرض في منتصف الصالة، فيما ستقسم أماكن الجمهور إلى أربعة أقسام. إضافة إلى الراقصَين، سيشارك في العرض فنانون تشكيليون (بترام شلش وليا بو حبيب وسيمون مهنا وغسان عويس) سينقلون الحركة الأدائية عبر مجموعة من الرسوم التي سيتسنَّى للجمهور مشاهدتها مع نهاية العرض حيث ستُعلَّق في المكان. بالنسبة إلى الموسيقى، سيتغيَّر مزاج كلّ فنّان بالطبع، ما سينعكس على حركات الرقص، وأيضاً على طبيعة الرسوم المرتقبة. علماً أنَّ موسيقى «وجهة نظر» خليط إلكتروني وكلاسيكي وشرقي، كما ستمرّ لحظات صامتة سيستمر فيها تانك وحبيس بالرقص، والفنانون الأربعة بالرسم.
التجربة قابلة للتطوير حسب تانك، الذي يقول لـ «الأخبار» إنَّه انطلاقاً من هذا العرض الأوّل في «سيترن بيروت»، والنتيجة على المسرح، هو يطمح إلى زيادة عدد الراقصين لاحقاً، ودعوة فنانين من ميادين مختلفة، كالفنَّانين التصويريين أو الفخاريين... لافتاً إلى أنَّ عرض «سيترن» سيفتح مجالات لا محدودة للتشكيليين، إذ هم قبالة وجهين وجسدين واضحي المعالم، فيما الحركة الراقصة تجريدية.

* Origami Cosmos: الليلة 20:30 ـــ «سيترن بيروت» (شارع أرمينيا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 71/616624
* «الجسد أبجدية الأصوات» لـ «دار قنبز» وندين توما: الخامسة من عصر اليوم السبت و29 حزيران (يونيو)
* P.O.V لجاد تانك: 20:30 مساء 28 حزيران (يونيو)