بغداد | في علاقة الشعراء العراقيين بالشاعر اللبناني أنسي الحاج، استعادة لإطلالة كبرى على عالم من التجديد والحريّة في «زمن السرطان» كما عبّر عنها صاحب «لن» ذات مرّة، يوم شهدت أكثر من عاصمة عربيّة، من بينها بغداد وبيروت، تقديم نماذج رائدة في الكتابة وتأسيس الجماعات الطليعيّة في الأدب والفن.
وداعه عند شعراء العراق كان في منزلة وداع لروح من أرواح الحريّة التي تبدّت في كتابات الراحل الأدبية والصحافية، منذ أن قرأ له العراقيون مجموعاته الشعريّة، وواكبوا رحلته الصحافية.
الميدان الأكبر لرثائه واستذكاره، كان فايسبوك. منذ ظهر الثلاثاء الماضي، توالت التعليقات التي تؤبّنه وتستعرض قصائده ومسيرته في الكتابة والحياة. يكتب الشاعر العراقي زاهر الجيزاني: «علّمنا أنسي الحاج أنّ العالم الذي نعيشه جميل وواسع، وكفاحنا هو أن نحرّره من نظرتنا القبيحة والضيّقة»، مضيفاً إنّه «كلّما أعاد ترتيب كلماته، أعاد العالم الذي حوله ترتيب صورته. فبالكلمات تتغيّر حركة العالم. كان أنسي أهم من غامر بمصير الكلمات، ليثبت لنا جدارتها في تكسير صلافة النظرة القبيحة الضيّقة التي حطمت آمال أجيال. لن تموت أيّها المعلّم». بألم وحسرة، عبّر الشاعر عبد العظيم فنجان عن حزنه، كاتباً على صفحته على الموقع الأزرق: «مرّة أخرى، يثبت الموت نذالته. يتجدّد سؤال الوجود، وأهمية الشعر». وتابع: «مات أنسي الحاج، إذاً فقد خسر الشعر طفولته، وصرتُ مكشوفاً أمام أعدائي من البدو: لطالما كان شعر أنسي يحميني من التصرّف بحكمة الكبار. كان شعره يؤهلني للحبّ، متسامياً على كره السفلة، وعلى نوبات غضب الفاشلين. كان شعره يعطيني جرعة من خطر المراهقة لأجلس بالقرب من الهاوية! مات أنسي، يا لي من يتيم!». من جهته، نوّه الروائي والشاعر المقيم في الدانمارك حميد العقابي، بـ«درس عظيم» نتعلّمه من الراحل، هو أنّ «الشاعر في نصّه وليس خارجه. يتمرّد، ويلعن، ويثور، ويشاكس، لكنّه يفعل هذا ضمن فهمه العميق لإنسانيته وللفلك الذي يدور فيه. أما المهاترات والادّعاءات والنرجسية فهي أدوات الفاشل إبداعياً، يمارسها خارج النصّ ليخفي شكلانية نصّه الخاوي وادّعاءه. صعوبة هذا الأمر أنّه لا يتحقق إلا لمبدعٍ على خُلقٍ عظيم، وقد كان أنسي كذلك».
أما الشاعر المغترب باسم المرعبي، فقد استعاد شيئاً من الافتتان بشعر الحاج، يوم كان شاعراً شاباً يبحث عن كتبه كأنّها نفائس، قائلاً: «أحببت أُنسي الحاج كمغامر، ساحته اللغة، يذهب إلى مداه الأقصى في تحدّي السائد الشعري والثقافي، مجاهراً بعدائه له حدّ العنف، ومستهجناً سكونية الشاعر والقارئ على حد سواء، واستسلامهما لـ«قدرهما» التاريخي في الهرب من الجديد المتغيّر». واستشهد بما قاله في مقدمة «لن» (1960): «بين القارئ الرجعي والشاعر الرجعي، حلف مصيري».
ولا يغيب عن بال الشعراء العراقيين يوم احتفى أنسي الحاج في 2010 بصدور العدد الأوّل من مجلة بيت الشعر العراقي «بيت»، وخصّها بتحيّة في «خواتم ـــ 3»، قائلاً: «العراق الخلّاق يعلّمنا كلّ لحظة كيف يُمات الموت». وإذا كان الراحل قد كتب يوماً: «ساعدني/ ليكن فيّ جميع الشعراء/ لأنّ الوديعة أكبر من يدَيّ»، فذكراه اليوم لدى شعراء العراق والعالم العربي، وديعة أكبر من اليد.