قد تجد فرادة نجيب سرور أدلّتها من موقعه بين أقرانه ومجايليه من المسرحيين المصريين والعرب. باعتباره مؤلّفاً ومخرجاً وممثّلاً وناقداً ومدرّباً وأستاذاً، وربما، أيضاً، منظّراً، بات يستحقّ، بمفرده من بينهم، وبحق، لقب «رجل مسرح» بأوسع معانيه، فإذا أُضيف إلى كل هذا كونه شاعراً، وروائياً، وناقداً أدبياً، وزجالاً ومؤلّف أغان، باتت فرادته، وبحق مرة أخرى، تتجاوز المسرحيين، إلى دوائر أكثر وأوسع، لكن أدلّة تلك الفرادة لا شك ترتكز إلى ما وراء منجزه الفني والأدبي، الذي يبدو كأنه يتواضع أمام فرادة شخصيته. فرادة جعلته موضوعاً للمتخيّل القصصي والروائي. يكفي مثلاً رواية «خمرية» لأمين العيوطي، و«سرور» لطلال فيصل. وهذه أمثولة رومانسية مثالية، حيث تصبح سمات ومواقف شخصية الفنان؛ بتناقضاتها وتقلباتها، أكثر فنيةً وتعبيريةً من فنه نفسه. هذه الفرادة لشخصية وصفت كثيراً بأنها «عاصفة اندفعت إلى قلب الحياة المسرحية والثقافية». دارت، إذن، في دوائر متعدّدة تبدو متّحدة المركز، في سنوات تحوّلات سريعة وحادة، وعنيفة في أحيان كثيرة.
■ ■ ■

في المركز، كان المسرح. وفي «المسرح الشعبي» التابع لمصلحة الفنون، كانت البداية، إذ انضمّ إليه فور تخرّجه في «المعهد العالي للفنون المسرحية» (1956). عن المصلحة، يذكر نجيب محفوظ في مذكراته أنها «استمرت خلال الفترة الممتدة من سنة 1955 إلى 1959، وتم تعيين يحيى حقي في منصب مدير المصلحة. وطلب حقي اثنين من المساعدين واختارني أنا وعلي أحمد باكثير وعملت مديراً لمكتبه». هناك كانت تتعزز العلاقة بين «النجيبين». عمل سرور تحت إدارة أستاذه المخرج عبد الرحيم الزرقاني، ممثلاً وكاتباً ومخرجاً. وقبل سفره إلى البعثة الدراسية في موسكو (1958)، أخرج للمسرح، ضمن مهرجان أُقیم في حدیقة الأزبكیة، ثلاث مسرحيات، واحدة فقط منها من تأليفه («شجرة الزیتون»- تابلوه غنائي).


بعد ست سنوات، وفي عام «المصالحة» بين عبد الناصر والشيوعيين، عاد «تائباً» من بودابست، التي لجأ إليها بعدما جعلته مواقفه السياسية في خصومة مع النظام السياسي في مصر وضاقت به ـــ أو ضاق هو ـــ بموسكو، وكان المهيمن على المسرح سؤالان: «هل المسرح الذي يقدّم مسرحاً شعبياً حقاً، أم هو مسرح المثقفين فقط؟ وهل هذا المسرح وثيق الصلة بتراث البلاد في فنون العرض المسرحي عامة، أم هو مسرح مستورد/ معرب، مسرح مستعرب؟».
السؤالان «انبثقا فجأة، من دون مقدمات ظاهرة» كما يقول علي الراعي، وهكذا عدَّت مسرحية نجيب سرور «ياسين وبهية» مساهمته الأولى في محاولة الإجابة. مساهمة تضاف إلى الاقتراحين النظريين اللذين تقدم بهما يوسف إدريس (مقالات نحو مسرح مصري)، وتوفيق الحكيم (قالبنا المسرحي)، وإلى المساهمة العملية التي قدمها إدريس في «الفرافير»، والحكيم في «الصفقة» و«يا طالع الشجرة»، وشوقي عبد الحكيم في «شفيقة ومتولي» و«المستخبي»، ورشاد رشدي في «اتفرج يا سلام».
■ ■ ■

مساهمة سرور يصفها علي الراعي في كتابه «المسرح في الوطن العربي» ثلاث مرات بصفات تبدو متعارضة، فهي: رواية شعرية، ملحمة شعرية، قصة شعرية، ولفت إلى أن «العمل يثير قضية الشعر الحديث بقدر ما يثير قضية الشعر الدرامي والدراما الشعرية، ومزج الشعر الفصيح بالشعر العامي، والجمع بين ملامح الرواية والدراما».
وينقل لنا أمين العيوطي وفاروق عبد القادر الأجواء النقدية التي رافقت العرض الذي أخرجه كرم مطاوع، فأضاف العيوطي إلى الراعي أن بعض النقاد تساءل عن «مدى درامية هذا العمل على الإطلاق وعلاقته بالمسرح». وأشار عبد القادر إلى وصف محمد مندور لها بأنها «قصيدة طويلة»، وإلى ما كتبه محمود أمين العالم من أنه «لا صلة على الإطلاق بين هذه المسرحية الشعرية التي تحكي قصة صراع الفلاحين في بهوت وبين الملحمة الصعيدية المشهورة».


حيرة النقاد تلك يبدو أنها صادفت هوى سرور، أم أنه أراد أن يعمّقها، فنشر نص «ياسين وبهية» في العام التالي، وعلى الغلاف عنوان فرعي: رواية شعرية. ويبدو أنه كان يخطّط إلى ما هو أبعد. فقد كتب بعد ذلك ثلاثة نصوص عن ياسين وبهية: «آه يا ليل يا قمر»، و«يا بهية وخبريني»، «قولوا لعين الشمس»، ليكون بذلك قد كتب رباعية على النسق نفسه الذي ابتكره أسخيلوس: ثلاث تراجيدية وواحدة كوميدية.
■ ■ ■

كان نجيب سرور، إذن، أحد الذين أسهموا في محاولة الإجابة على ذلك السؤال الذي «انبثق فجأة، ومن دون مقدمات ظاهرة» في الوسط الفني والثقافي. لكنه كان زمن مثل هذه «المفاجآت»، فكما كانت هناك دعوات لـ«الاشتراكية العربية»، و«الفلسفة العربية»، والكثير من «العربية، والخصوصية، والشعبية، والجماهيرية»، كان طبيعياً أن ينشغل الجميع، رواداً وشباباً، يساراً ويميناً، بالمسرح «العربي، الشعبي، الجماهيري». لكن السؤال كما انبثق (ظاهرياً) فجأة، خفت فجأة، عقب هزيمة يونيو، وكفّ أغلب المشاركين عن مواصلة البحث عن إجابات، لكن سرور واصل؛ بدأب لافت. المدهش أنه من بين كل المسرحيات التي حاولت الإجابة على ذلك السؤال، لم تصمد سوى مسرحيات نجيب سرور، وظلت لثلاثة عقود بعد وفاته (1978) وما زالت، وإن بوتيرة أقل - مطروقة من قبل فرق الهواة في مراكز الشباب والثقافة الجماهيرية والجامعات.
عدَّت «ياسين وبهية» مساهمة تضاف إلى الاقتراحين النظريين اللذين تقدم بهما يوسف إدريس وتوفيق الحكيم


والمدهش أكثر، أن دوافع ذلك الطرق المتواصل لهذه الفرق على عالم نجيب سرور، ربما يرجع إلى أكثر أسباب النقد الموجه إلى مسرحياته، وإليه هو شخصياً، وإلى هجائياته؛ الممنوعة من النشر خاصة.
منذ عرض ونشر «ياسين وبهية» وتوالي ظهور بهية في مسرحياته، كان أغلب النقاد يصرّون على أنّه لا يصح درامياً اعتبار «بهية» رمزاً لشيء وراءها، لكن استقبال المصريين ـــ وربما العرب ـــ لأعمال أخرى شعرية وسينمائية، وغنائية، عاندت تلك الآراء النقدية.
وبينما عاب بعض النقاد عليه الصياغة الميلودرامية للأحداث والمواقف والكلمات، كانت تلك الصياغات مصدر جاذبية هائلاً، لا تشابه ميلودرامية نجيب سرور، بالطبع، ميلودرامية إبراهيم رمزي ويوسف وهبي، أو حسن الأمام، لكن تظل الملامح الميلودرامية قارةً في أعماله، وبمعدلات زالت مناسبة لذائقة ذلك الجمهور. وهذه الغنائيات الطويلة المكررة، التي هي خليط من المواويل والألفاظ الفصيحة والعامية هي متلازمة الميلودراما في تلك الذائقة. أما الجدل حول الشكل أو «النوع» المسرحي الذي ينتمي إليه ما كتبه نجيب سرور، فلن يشغل كثيراً هؤلاء الهواة. وإذا كان بعض مسرحياته عبارة عن مشاهد متتالية لا تلزم نفسها بتتابع زمني أو منطقي، ولا شيء يحدث فيها، ويمكن أن يحذف منها وأن يضاف إليها من دون أن يختل شيء، فربما كان ذلك مصدر الجاذبية الأعظم لبقاء مسرح نجيب سرور مطروقاً بهذه الكثافة حتى الآن، بينما خفت الطرق تماماً على باقي المجيبين على السؤال الذي أضحى بدوره منسياً.

* ناقد ومخرج مسرحي مصري