بالإصبع الوسطى التي رفعتها المغنية آشلي (مايلي سايرس) في وجه عمتها الشريرة كاثرين (سوزان بورفار)، حسمت الفنانة الشابة معركتها ضد من أرادوا استغلال موهبتها ــ عن طريق تقنيات متقدمة ـــ مع الإبقاء على جسدها في حالة غيبوبة دائمة. كان يفترض بتلك الحلقة، وهي الثالثة والأخيرة في أحدث مواسم مسلسل الديستوبيا الشهير ـــ أو الذي كان ذلك ـــ «بلاك ميرور» (المرآة السوداء)، أن تكون درة تاج الموسم الخامس. فبطلتها ـــ على غير عادة المسلسل ـــ نجمة غنائية أميركية معروفة، وهي ـــ الحلقة ـــ تجمع بين اللعب على خيوط التكنولوجيا المستقبلية، وأغنيات جديدة لنجمة البوب التي تعودت إثارة الجدل بتصرفاتها «الصادمة»، جنباً إلى جنب مع أعمالها الفنية. لكن «الجدل» الوحيد الذي أثارته الحلقة التي عُرضت بعنوان Rachel, Jack and Ashley Too هو انخفاض شعبيتها بشكل صادم. جاء تصويت الجمهور على الموقع الأشهر IMDb مفاجئاً، إلى درجة بدت كما لو كان تصويتاً عقابياً، إذ لم يمنح المشاهدون الحلقة أكثر من 6 درجات من أصل عشرة، لتأتي في المركز الأخير، لا في الموسم الخامس فحسب، بل في جميع مواسم المسلسل.بصفة عامة، جاءت تقييمات الموسم الجديد منخفضة عن أي موسم سابق، سواء بصفة منفردة أم إجمالية. لم يعد مجهولاً أن شبكة «نتفليكس» الأميركية صارت منتجة المسلسل منذ موسمه الثالث. المسلسل الذي بدأ بريطانياً على القناة الرابعة في أواخر 2011، تعوّد تقييمات أعلى من 8 منذ موسمه الأول، ارتفعت إلى 9.2 في حلقة نهاية الموسم الثاني White Christmas. وهو رقم مذهل، حقّقه ذلك المزيج بين استعراض مخاوف المستقبل، وشرور النوع الإنساني ورغباته، والتناول الذكي ـــ لكن غير المعقد ـــ لإمكانات الخيال العلمي، والأهم، التوقع غير الساذج، وإن غلبت عليه السوداوية، لمستقبل الإنسان في ظل تغوّل الآلة.
تعدّ حلقة Nosedive نموذجاً فائقاً على هذا المزيج، فهي تأخذ بسلوكيات عالم السوشال الميديا إلى أفق أكبر. ماذا لو كان الإنسان، برمته، لا مجرد صفحته أو منشوره على فايسبوك، عرضة للتقييم من قبل الآخرين بضغطة زر، فيصبح أسير رغبته في الحفاظ على تقييمه الذي يظهر للآخرين بمجرد تسليط كاميرا هواتفهم عليه، وتصبح درجة كل إنسان عازلاً طبقياً؟ فالفنادق الفارهة لا تسمح لأقل من أصحاب تقييم معين بالنزول فيها، وشركات السيارات لا تسمح لمن هو دون ذلك التقييم باستئجار سياراتها، وكذا الأمر بالنسبة إلى دخول المطاعم والالتحاق بالوظائف واستئجار المساكن في مناطق معينة. ويتضخم النفاق الاجتماعي أملاً في الصعود «التقييمي»، وتصبح العنصرية الجديدة هي درجتك البشرية التي تحددها هواتف الآخرين، فماذا يحدث لك لو قررت التمرد على كل ذلك والعيش على هامش المجتمع؟ الحلقة التي نالت تقييم 8.3 كانت أولى الحلقات من إنتاج «نتفليكس» في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، محافظة على ذلك الخط الذي يطرح سؤالاً إنسانياً، في إطار خيال علمي منطلق من حالة معاصرة تنمو ويمكن ملاحظة أثرها وإمكانية تحققها في الواقع، تماماً كما هو الحال مع حلقات مثل Be right back من الموسم الثاني حيث تتم استعادة شخصية إنسان ميت عبر تطبيق حاسوبي، أو Men against fire من الموسم الثالث، حين يكتشف جندي أن «الوحوش» التي يقاتلها ليست إلا بشراً مثله، وأنه يراها وحوشاً فقط لأنّ قادته زرعوا في رأسه ـــ حرفياً ـــ ما يجعله لا يرى «أعداءه» على نحو صحيح. لقد حوفظ على نسق المسلسل وروحه إلى حدّ كبير رغم الشراء الأميركي له، بفضل استمرار مؤلفه الأصلي البريطاني تشارلي بروكر رغم تعدّد المخرجين. ومع ذلك، فإن المسلسل فقد بالتدريج روح السخرية السوداء التي تبدّت بقوة منذ حلقته الأولىThe National Anthem التي يتم فيها اختطاف أميرة في العائلة المالكة البريطانية، ويرفض الخاطف الإفراج عنها إلا إذا أقدم رئيس الوزراء على مضاجعة خنزير على الهواء مباشرة عبر الشاشات! منذ الموسم الرابع، بدأ ما يمكن تسميته «التأثير الأميركي» يظهر في حلقات المسلسل. فحلقته الأولى USS Callister تعتمد على استعادة أبطال السلسلة الأميركية الشهيرة Star trek. كما أن ثلاث حلقات من أصل ست تشكل إجمالي الموسم، تتحقق فيها النهاية السعيدة وانتصار «الخير» أو الانتقام من الشرير، وهي سمة أبسط بكثير من الحس السوداوي ـــ لكن الأشد عمقاً ـــ للأجزاء السابقة.
هنا ربما لعب تقييم الجمهور دوره في «الخدعة». فالحلقات «السعيدة» في الجزء الرابع كانت الأعلى تقييماً من الحلقات ذات النهاية «القاتمة». لكن ربما لم يكن ذلك بسبب نهايتها السعيدة، بل بسبب موضوعاتها التي تناولت سلسلة النجوم ذات الشعبية الهائلة، والانتصار العرقي (ابنة سوداء تثأر لأبيها من أبيض عنصري) في حلقة Black Museum، وانتصار الحب بعد معاناة في Hang the DJ.
أياً كان، فقد واصل المسلسل في موسمه الجديد الالتزام بالنهايات السعيدة، في ثلثيه على الأقل، بعدما عاد إلى موسم الثلاث حلقات بدلاً من ست. لكنه، وهنا الأهم، فشل في «الموضوع»، فتمحورت حلقة ما يلي سايرس حول نفسها كمغنية في صراع مع عمتها، لتقفز الأحداث بخفة فوق كل ما يمكن استغلاله كسحب «شخصية، وربما روح» المغنية داخل لعبة صغيرة يستغلها السوق لأرباح أكبر على حساب المراهقين. كما أن إشكالية الرغبات الجنسية المكبوتة في حلقة Striking Vipers تُمنَح حلاً «أميركياً» سهلاً في النهاية. أما حلقة Smithereens ـــ ورغم فقر إمكاناتها الخيالية ـــ فقد منحها الجمهور تقييماً أعلى بقدر ضئيل، ربما لأن سوداويتها ذكّرتهم بشيء من رائحة المسلسل في أيامه البريطانية.