كثيرة هي القضايا التي تعدَّل مسارها، كليّاً أو جزئياً، بعد الضغوط التي مارسها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي على المعنيين فيها. كثيرة هي الحملات الرقميّة التي شُنّت لتشويه صورة جهة ما، أو شخصيّة أو فئة، أو على العكس «لتلميعها»، وقد أُنفقت لأجلها آلاف الدولارات. كثيرة هي أبواب الأمل التي رسمها المستخدمون، هم أنفسهم، لمرضى أو محتاجين أو فاقدي الأمل من مؤسسات الدولة، فكانت هذه المنصّات مفتاحاً حقيقيّاً لرفع الصوت والتمسّك بيد العون، وليس آخرها إنقاذ الشاب العشريني أحمد دلباني عبر جمع التبرعات لإجراء عملية زرع قلب. لكن في مقابل ذلك، مشكلات عقيمة، نمت وارتوت في هذه الساحة التي تُسمى زوراً «افتراضية»، بينما هي أقرب ما تكون إلى برمجة الواقع. لعلّ أخطر هذه القضايا هي تلك المتعلّقة بالطائفة أو الحزب أو المنطقة، في بلد يسوده التقوقع الطائفي والعنصرية ونبذ الآخر، واعتبار كلّ فرد مختلف في الوطن عدوّاً مُحتملاً. باتت مواقع التواصل تُشكّل أرضاً خصبة لكل مشروع، فتنة كانت أو مسعى للتغيير. باتت هذه المواقع إعلاميّة أكثر منها اجتماعيّة. سلطة أولى لا رابعة، متاحة بيد الجميع، من دون رقابة ولا ضوابط أو قيود. الكل في هذه الساحة سواسية، لا أفضليّة فيها لأحد. الخير والشرّ مثيلان. تكاد لا تميّز بينهما. استباحة الدم والتخوين، من أسهل الجرائم المظلّلة تحت شعار «حريّة التعبير». من السهل جداً اليوم، بدون كلفة أو جهد، أن تدسّ «سموم الطائفة» بين أفراد الوطن. أن تعيد نبش ذكرياتهم الدمويّة من القبور. أن تحرّضهم على «عدوّ» لم تثبت إدانته. أن تثير الحقد لديهم. أن تلقي التهم من دون دليل واحد يُستند إليه. أن تنشر صوراً مضى عليها سنوات وتفبرك قصّتها لتشعل فتنة. أن تُفبرك الحقائق، بالصوت والصورة، بعدما تطوّرت تطبيقات عدّة، أصبحت متاحة لدى عامّة الناس، تسمح بفبركة كلام المتحدّث أياً كان، مسؤولاً سياسياً أو عالم دين أو حتى على صعيد الحياة الشخصيّة للأفراد. بتنا في عصرٍ يمكن جعل أيّ شخص يقول أيّ شيء وفي أيّ وقت. يمكن اختلاق الأكاذيب والمعلومات الخاطئة والمضلّلة والمستندات المغلوطة أو حتى إصدار بيانات لا يعلم أصحابها المفترضون بها، لا سيما في ظلّ غياب سياسة معتمَدة لدى مؤسسي هذه المواقع تشترط صحّة ما يُنشر عليها.
لم تلبث أحداث أول من أمس أن تقع، أثناء زيارة وزير الخارجية جبران باسيل إلى كفرمتى، حتى انطلقت موجة التغريدات والتعليقات «العطِشة للحرب الأهليّة». صور «بوسطة عين الرمانة» لم تكن الوحيدة. وسمها المغرّدون بعبارة «راجعة»، كأنها تمنٍّ، أو حدث يقين، أو حتى احتقان لسنواتٍ خلت. لم تهدأ الشعارات التي أطلقها الحزبيون بالتهديد والوعيد. باسترجاع أيام الحرب الدمويّة. زمن الميليشيات والكنتونات المغلقة. وعلى الرغم من أنّ جزءاً بسيطاً منها كان من باب المزاح، فهو يشي بـ «لاوعي» دفين، يرفض التخلّي عن تلك الحقبة. تفضح هذه المنصّات مكنونات البشر. ولبنان «الوطن النهائي لجمیع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات» هو كذبة نعيشها يوميّاً على هيئة «دستور».
موجة تغريدات وتعليقات «عطِشة للحرب الأهليّة»

لم تكن السنوات الخمس عشرة من الحرب الدامية كافية للبنانيين لمعالجة مشكلاتهم الطائفيّة.
كثيرة هي المظاهر المتفلّتة من القانون اليوم، المسلّحة منها، التي ترفع سلاحها عالياً بين المدنيين، «للمرجلة أمام المتابعين»، بعد تصوير الفعل ونشره على مواقع التواصل، المحفّز الأول «للمرجلة» في ظلّ غياب تام لدور الدولة. وما يزيد الاحتقان، الشائعات التي تنتشر كالنار في الهشيم بين كل ساعة وأخرى. اعتداءات كاذبة، تسجيلات صوتية تُنذر بانفجارات قادمة والكثير غيرها، وهو ما يزيد من الاحتقان ضدّ الآخر في الوطن، المسبّب المفترض «للخطر». أحداث بلدية الحدث كانت لها الحصّة الأكبر في الآونة الأخيرة على هذه المنصّات. وزيرة الداخليّة ريّا الحسن، قالت في اتصال هاتفي على إحدى القنوات إنها «لم تسمع بما جرى مع بلدية الحدث إلا على منصّات التواصل». هذه وزيرة وليست مواطنة. كل ذلك يسهم في بلورة دور منصّات التواصل في برمجة الواقع الذي نعيشه، وفي بناء أرض خصبة لأيّ مشروع بما فيها الحرب. يسرح ويمرح المحرّضون في هذه الساحة كما يحلو لهم. يُشعلون عن دراية أو جهل فتيل الصراع. أما آن الأوان لوضع خطة أوليّة تخفّف من خطر التجاذبات الطائفية وخطاب الكراهيّة على هذه المنصّات؟ ألم يحن الوقت بعد لتفادي الكوارث قبل وقوعها؟ هذا الخراب والتفكّك الاجتماعي ليس وليد اللحظة، ومنصّات التواصل اليوم هي الجيش الذي سيستخدمه أيّ ساعٍ للحرب ما إن تقع. أما اللطف فعلى الله!

* صحافية لبنانية