عاماً تلو آخر، فرض «شباب توك» نفسه على الساحة الإعلامية العربية، وسط الفوضى التي تضرب المعايير المهنية. تجربة استحوذت على اهتمام الجمهور العربي عموماً واللبناني خصوصاً وإن كانت من بوّابة محطة ألمانية «وافدة» إلى منطقتها وناطقة بلغتنا: «دويتشه فيله». في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، كانت بداية البرنامج الحواري ــ التفاعلي الذي تفرّد بجرأة وعمق الطرح وتنوّع الضيوف والمواضيع التي غالباً ما خرجت عن السائد وكسرت «خطوطاً حمراً» بمعيار بلادنا الرازحة تحت شتى أنواع المشاكل، فيما شكّلت شخصية وأداء مقدّمه اللبناني جعفر عبد الكريم (1981) حجر زاوية في نجاحه وشهرته. منح «شباب توك» الشباب العربي بمختلف انتماءاته وخلفياته «صوتاً» وناقش قضايا ملحّة وعالج تابوهات ومسائل غير مألوفة، من الإلحاد والاغتصاب إلى تأخّر سنّ الزواج عند المرأة والطلاق، مروراً بالعلاقات الجنسية قبل الزواج وخارج إطاره والختان والمثلية والتطرّف الديني والزواج المدني والعنصرية ضد العرب في أوروبا. هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ شكل البرنامج (الديكور البسيط والألوان ــ الأبيض والأسود والأصفر) شكّلت عامل جذب منسجماً مع طابعه الحيوي، بالإضافة إلى اشتغال فريق العمل على الجانب البصري على السوشال ميديا، خصوصاً فيديوات الإنفوغرافيكس السريعة.وفي تموز (يوليو) 2019، وتحديداً يوم الثلاثاء الماضي، وصلت التجربة إلى نهايتها وهي في عزّ ألقها وذروة توهّجها. النبأ أعلنه الإعلامي الشاب المولود في ليبيريا والحامل للجنسية الألمانية عبر حساباته وصفحات البرنامج على مواقع التواصل الاجتماعي، واعداً المتابعين بتجربة مهنية جديدة يبدو أنّ التواصل مع الجمهور سيكون أساسياً فيها، كما جرت العادة. هذا ما استشفّيناه من حديثه الأخير مع «الأخبار» الذي فضّل عدم الإفصاح فيه عن الكثير من التفاصيل المتعلقة بالبرنامج المرتقب، الذي سيبصر النور عبر المحطة نفسها، حيث بدأ جعفر حياته المهنية مراسلاً. لكن الأكيد أنّ التراكم الذي تحقق على مدى الأعوام الثمانية الماضية سيُستثمر فيها، خصوصاً على صعيد التواصل المباشر مع الناس، مع الحفاظ على الهدف الأبرز والأهم: إيصال صوت الشباب العربي المسحوق بفعل عوامل لا تعدّ ولا تُحصى، لا سيّما حول مواضيع أساسية متعلّقة بالحقوق والحريات. ومن المعلوم بأنّ التماس مع الناس والقرب منهم، سيبقى تحدياً جوهرياً بالنسبة لعبد الكريم الحريص دائماً على «أن أكون مع الناس لأفهم ماذا يجري. أريد للجميع أن يشعروا بأنّنا نحاكي أفكارهم وهواجسهم وهمومهم»، منادياً على الدوام بالحرية الفردية واحترام حقوق الإنسان، في الوقت الذي يفاخر فيه بأنّه على الأقل «يحثّ» أولئك الرافضين للمواضيع والأفكار المطروحة على «التفكير».
عشرات الحلقات التي استقبلت أكثر من 924 ضيفاً، من الصعب إحصاؤها واختيار الأفضل بينها. إلا أنّ هناك محطات بارزة لا تزال عالقة في الذاكرة لغاية اليوم.
في لبنان مثلاً، نذكر جيّداً تلك الحلقة التي صوّرها عام 2016 تحت عنوان «أريد أن أتزوّج مدنياً... ليه ممنوع؟»، بالإضافة إلى «أوّل مناظرة متلفزة من نوعها في البلاد» ناقشت المرّشحين للانتخابات النيابية في أيار (مايو) الماضي في مواضيع حسّاسة وجدلية، من بينها الطائفية والتوريث السياسي والفساد. ناهيك عن المقابلة الخاصة التي أجريت مع الفنان زياد الرحباني. فعلى الرغم من الانتقادات التي وجّهت إلى أسلوب جعفر في إدارة الحوار، لكن لا شكّ في أنّه استطاع الخروج بتصريحات نارية من زياد لا تزال تتردّد لغاية اليوم، كحين قال إنّ «أصالة (نصري) تقصّ خبزاً بصوتها»، أو عندما علّق على وجود الإماراتية أحلام في لجان تحكيم برامج المواهب بالقول إنّه يشعر برغبة في التوجّه «إلى قائد الجيش فوراً، لكي يتدخل ويقوم بمهمة لجنة التحكيم».
وفي أيلول (سبتمبر) الماضي، سلّط «شباب توك» الضوء على وضع النساء في السودان. للأسف، الحلقة التي صوّرت في الخرطوم وشملت مواقف صارخة وجدالات حامية (منها حول القمع والإهانة والتحرّش للمرأة في هذا البلد)، استدرجت رسائل كراهية ونداءات مقاطعة وتهديدات بالعنف، أعقبت بثّها، واستهدفت عبد الكريم وقناة «السودانية 24» التي بثت البرنامج أيضاً. سجالات بالجملة ملأت السوشال ميديا، تخللتها دعوات إلى مقاطعة القناة المحلية و«طرد» جعفر من السودان، قبل أن يصل الأمر إلى أئمة المساجد وعناوين الصحف الصادرة داخلياً، فضلاً عن التهديدات وخطاب الكراهية المقيت.
أما في الأردن، فقد أثارت إحدى الحلقات بلبلة كبيرة حين روت فتاة قصّة تعرضها للتحرّش، ما دفع بنائب أدرني سابق موجود على البلاتوه إلى المغادرة غاضباً. إذاً، قرّر جعفر عبد الكريم الانسحاب وهو لا يزال في «القمّة»، بحثاً عن تجربة جديدة يختبر فيها ربّما طعماً جديداً للنجاح في تجربة من المستبعد أن تتأخّر!