كان صديقي الأستاذ الجامعي يستمزج آراء الحاضرين عن عناوين لكتب يمكن أن يرسلها لصديق له في الولايات المتحدة طلب منه نصيحته وتزويده بكتب تتحدث عن المجتمعات العربية وتاريخ تطورها وأزماتها في المنطقة. وبعدما تطوّع البعض بالإشارة إلى بعض العناوين، قمت بدوري بتذكيره بعدم نسيان أنطون سعادة وكتبه. كانت ردة فعل صديقي الأستاذ الجامعي فورية من دون أي تلكؤ، فقال: «لا لا لا يمكن أن أروّج للفكر النازي».كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة إليّ بما أن الحكم على فكر سعدة جاء من قِبل أستاذ جامعي يُفترض أن لا يكون عنده تحيّز تجاه أيّ أفكار، طالما أن المسألة بالنسبة لطالب الكتب في الولايات المتحدة تتعلق بالبحث والدراسة، وبالتالي لا مجال لأخذ موقف ايديولوجي تجاه الأفكار طالما أنها تتعلق بالأبحاث. المفارقة الثانية كانت في موقف صديقنا الأستاذ الجامعي أنّه حكم على فكر سعادة بأنه جزء من الفكر النازي. من خلال الحكم بالنازية على فكر سعادة، تأكّدت أن صديقنا لم يقرأ، بل لم يطلع بتاتاً على فكر سعادة. عندما سألته كيف يحكم وهو بالأكيد لم يقرأ سعادة، أجاب: «لا داعي لقراءته فالموضوع واضح من عنوانه. كل مظاهر حزبه وشعاراته كانت نازية». مع هذا الجواب، تأكّد لي ما كنت قد لاحظته من خلال عملية تقييم تاريخية فكرية وسياسية وتنظيمية وحتى أمنية لمسار الحزب السوري القومي الاجتماعي في تاريخ سابق أوصلتني إلى بعض الملاحظات، لا مجال لذكر جميعها هنا، لكن نقطة مهمة جديرة بالذكر والبحث والتمحيص.

في المحكمة العسكرية 8 تموز 1949

هذه الملاحظة كانت تتعلق بشعارات الحزب من رايته التي تتوسطها الزوبعة مع اللونين الأحمر والأسود، مما كان يعطي شبه تطابق مع ألوان العلم النازي. إذا أضفنا إلى ذلك الملابس والتحية وبعض الظواهر الأخرى التي كان يتمظهر بها الحزب النازي، لوجدنا شبه تطابق. ومع إضافة كلمة القومي الاجتماعي، يصبح الأمر كأنه نسخة معدلة للحزب النازي. لا أخفي أنني في شبابي كنت ضحية لهذا الخلط في المظاهر قبل أن أطّلع على فكر سعادة. لكن بعد الاطلاع على فكره، وجدت المفارقات الكبيرة الصادمة.
أولاً، فكر سعادة هو فكر غاص في التاريخ والجغرافيا السورية وفي المجتمع السوري بشكل عميق ودقيق ولم يكن ناقلاً لمجرد أفكار قومية كانت تتداول في تلك المرحلة التاريخية.
ثانياً، إنّ سعادة لم يرتكز في مقولاته القومية إلى أيّ نظرية عنصرية تتعلق بنوع من البشر، لا بالعلاقة الجينية ولا بالتفوق العرقي ولا بالخصوصية البيضاء، ولا حتى بالجذور الأصولية لتاريخ مكونات المجتمع السوري. كان سعادة خارج كل هذه المواضيع، بل كان عالماً اجتماعياً سياسياً بامتياز. درس ما يمكن أن أسمّيه جيولوجيا الطبقات المتراكمة للحضارة السورية عبر التاريخ. ضم فيها النشاط الاجتماعي الحضاري لكل من سكن وأقام، أو حتى مرّ مرور الكرام وأثّر بنهضة الحضارة السورية. هذا العلم ينطبق على كل الحضارات المتلاقحة والمتتابعة التي تشكل صيروة الحضارة الإنسانية.
ثالثاً، قومية سعادة لم ترتبط بعرق ولا حتى بلغة. فاللغات تتابعت وتلاحقت على مدى امتداد الحضارة السورية والمجتمع السوري. فالسريانية كما الآرامية كانت مستقبلة ومتلاقحة مع اللغة العربية، ورغم أنها سبقتها حضوراً في المجتمع السوري، إلا أنها أغنتها، وما زالت آثارها حتى اليوم.
خامساً، كان سعادة ينظر إلى القومية كحركة إنسانية ارتقائية ومحكوم عليها للبقاء أن تكون حرة أولاً وغير مستعمرة أو مستتبعة. وبالتالي نشر فكر الاستقلال والحرية في مجتمعه مقاومةً للاستعمار، كما نشر فكر التغيير والانتفاض على الواقع المتحجر أو الرجعي والقيام بالعمل الثوري الضروري للتغيير، فاستنهض القوة فينا التي لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ.
مع إضافة كلمة القومي الاجتماعي، يصبح الأمر كأنه نسخة معدلة للحزب النازي


سادساً، يسجل لسعادة «الزعيم» أنه كان من الرواد الأوائل لتفصيل والتحذير من الخطر الصهيوني، وحرض على أهمية التصدي له قبل أن يستفحل في السيطرة على المنطقة، وتنبه بفكر وقّاد ويقظ واستشرافي لمن سماهم يهود الداخل. وكم كانت هناك أحداث لاحقة صادقة وساطعة من خلال تعاون قوى عديدة في الجغرافيا السورية وفي محيطها بالتعامل علناً أو سراً مع العدو، حتى إنّ البعض قاتل معه ومن أجله ضد مجتمعه وأمته.
سابعاً، يسجّل لسعادة أنه قارب المسألة الطائفية بشكل دقيق وشخّص مخاطر هذا المرض، في حين أنّ أحزاباً علمانية كانت تدّعي امتلاك النظرية العلمية، اكتفت بنقل المرويات والنظريات الغربية المتعلقة بالصراع الطبقي، التي قد تكون صحيحة في مجتمعات صناعية لا تنخرها الطائفية، لكنّها تناست خصوصية منطقتنا وابتلاءها بهذا المرض، ألا وهو الطائفية.
ثامناً، يسجّل لسعادة أنه استحضر مقولات غابت عن كبار علماء الدين الذين كانوا وما زالوا غارقين بالتبشير ليس لدينهم بل أيضاً لمذهبهم، فطرح نظرية الإسلام برسالتيه، المحمدية والمسيحية، وهي نظرية قرآنية ابراهيمية، غابت عن منظور وعن خطاب العديد من علماء الدين، فأعاد بذلك الوحدة والألفة بين الديانتين بالإشارة إلى جذورهما المشتركة.
تاسعاً وهي بنظري من أهم ما تفرد به سعادة وخاصة في عصرنا الحالي، بفضل العلوم الحديثة والفوارق بين المادة والطاقة، بين ما هو صلب وملموس وما هو في حيز الأنوار، بفضل علوم الفيزياء الكونتية، فتحدث سعادة عن «المدرحيات» وشدد على أهمية الجمع بين الروحانيات والماديات بحيث يبقى التوازن الفكري والعقائدي عند الإنسان.
أمام عظمة هذا المفكر، نجد أن المظهريات من شعارت ولباس ورايات وشعائر كانت أولاً العائق الأساسي لحكم البعض وممن لم يقرأوه أن يحكموا عليه بأنه فكر نازي.
سعادة أغنى الفكر ليس فقط السوري، بل العالمي أيضاً بنظريات جديرة.