عرض «بيروت سيبيا»، كما قد يوحي العنوان، يرجعنا الى إحياء ذكريات أبناء بيروت على لسان كريستال خضر (نصّ وأداء وإخراج) كمحاولة منها للتواصل مع المدينة التي دمّرت وتعمّرت سبع مرات فوق ذكريات أهلها الغابرة. تنتشل خضر مجموعة من الذكريات والقصص من تحت الأنقاض لبعض السكان، كمحاولة لتجميع هوية هذه المدينة، علّها تنقذ ما تبقّى من حبّها لها. تعرض إشكاليّة العلاقة بين المدينة المتشظّية وذكريات أبنائها المطمورة والجيل الجديد الذي يبحث عن وجه مدينته.
رغم أن خضر تعلن موقفاً سياسياً يسائل علاقتنا مع المدينة، لكن شكل العرض اتسم بهدوء وحميميّة كبيرين. لعلّ هذه المفارقة بين الموقف الصاخب بمضمونه وطريقة طرحه الناعمة كانت أهم الخيارات الكتابية والإخراجية لديها. رغم قسوة الموضوع، اختارت أن يكون العرض عبارة عن جلسة حميمة وهادئة تخبرنا كحكواتية ذكريات الناس في علاقتهم مع مدينتهم ومدى تأثير الأخيرة عليهم. يتراءى لنا المشهد وقد جُمِعنا حول المؤدّية خضر في نصف دائرة، وهي تروي لنا حكايات مَن مرّوا قبلنا في مدينتنا، كأننا في جلسة استحضار أرواح هائمة جاءت كي تقول ما منعتنا أصوات قذائف الحرب وأصوات جرّافات إعادة الإعمار من سماعه. ها هي خضر تلعب دور الوسيط الروحي بيننا وبينهم كي تصلنا بهم. التواصل المراد به بيننا وبين المدينة يطال أولاً العمل على العلاقة المبتورة بيننا وبين الأجيال السابقة؛ بين زمني الحاضر والماضي؛ وبين الله والمدينة.
تبتكر خضر أسلوب حكواتي جديداً يتناسب مع المدينة الحديثة المقطّعة الأوصال في سرد حكايات مبتورة ومتناثرة ومتشظية كأنها تعاين أشلاء ذكريات بدلاً من ذكريات كاملة وواضحة المعالم. تتناول خضر مع كل قصّة تفاصيل صغيرة في حياة شخصياتها وما يجول في خاطرها، فتفتح عدسة «زوم» من أجل التركيز على مشاعر أو تفاصيل حميمة معيّنة ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة في تأثير المدينة فيهم من دون التطرّق الى تفاصيل أخرى قد تكمل صورة الشخصيات. نرى معالم قليلة جداً من كل شخصية لكنّها تتسم بقوّة دلالاتها عن المدينة.
تستخدم الحكواتية المعاصرة لغة بسيطة تزخرفها أحياناً بصور شعريّة، فنلتقط إحساس الذاكرة وليس فقط أحداثها. كذلك فإنّ أداءها كحكواتية لم يتمحور حول تجسيد الشخصيات كما يفعل الحكواتيون أحياناً. ليس المهم إحياء الشخصية في العرض، بل إحياء ذاكرتها. لذا، كان خيار الأداء أقرب الى الراوي الذي يضع مسافة بينه وبين القصص أكثر منه المؤدّي الذي يعبّر عن إحساس شخصيّات حكايته. أثبتت خضر في خياراتها الأدائية والإخراجيّة أنها تمسك العرض بمفاتيح موزونة إذ بدا متماسكاً. لكن كان هناك بعض التفاوت بين الحكايات من حيث تركيبتها. جاءت خيوط بعضها غير مترابطة، ما أدّى الى عدم تماسك بعضها.
استقت خضر بعض هذه الحكايات من الواقع، وبعضها الآخر كان من ابتكارها. الحكاية الأولى التي تفتتح بها العرض، استوحتها من قصة بولونية قديمة عن حاخام أخطأ في كتابة المازوزة، أي الصلوات، بسبب امرأة فتنته وسلبت تركيزه. تحولت المدينة عندئذٍ الى فوضى وخراب وحروب. ليس هناك روابط بين حكايات خضر المتفرّقة والمستقلة بعضها عن بعض إلا من حيث التيمة. لكن لا بد من وجود دلالة لاختيار حكاية الحاخام في استفتاح العرض، كأن في طرحها لتداعيات «خطيئته المدمّرة» ما قد يشير الى تداعيات أزمة اليهود وشتاتهم في زعزعة المنطقة، وتأثير ذلك بالتالي في إشعال الحروب في مدينتنا. بذلك، تكون خضر قد مدّت خيطاً زمنيّاً بين الحكايات يعود الى أزمة بداية القرن العشرين وأحياناً ما قبل ذلك، حين تشير الى المدينة التي تدمّرت سبع مرات. ثمّ يصل الخيط الى زمننا المعاصر بحيث تتطرّق قرابة نهاية العرض الى حكايات من يومياتنا، مثل حكاية والدتها وعلاقتها مع زعيم طائفتها. لكن المفارقة في الحكاية الأخيرة أنّها تطال الحكواتية نفسها في حضرتنا. في هذه اللحظة، تدخل الحكواتية الى قلب الحكاية، وتصبح شخصية من شخصيات حكاياتها كغيرها من الشخصيات، ثمّ تخرج وتكمل حكاياتها من جديد، ليتطوّر مفهوم المسرحة في العرض الى أوجه. تظهر هذه الحكاية قطيعة بينها وبين أمها... أمر لا يعكس فقط القطيعة بين الأجيال، بل بين أفراد العائلة الواحدة بسبب مواقفهم المختلفة تجاه المدينة. تنهي خضر العرض في تداع حر (المفهوم الفرويدي) يفتح النهاية الى إمكانيّة طرح حكايات كثيرة بدلاً من أن يقفلها... حكايات كثيرة وذكريات منسية لأبناء مدينة مهزومة، أخذت خضر على عاتقها لملمتها ومشاركتها مع الجمهور، علّها تسهم في مد جسور التواصل بيننا وبين مدينتنا.

* «بيروت سيبيا»: 19:00 مساء اليوم وغداً ـــ «استوديو زقاق» (بدارو ــ بيروت) ــ للاستعلام: 03/145361



اللعبة الإخراجية

أحياناً تصوّر لنا كريستال خضر علاقة الشخصية مع أغراضها من خلال استحضار الغرض نفسه أو مدلول الغرض بشكل موازٍ في مساحة الأداء. من هنا ينطلق الفعل المسرحي والمسرحة في اللعبة الإخراجية. كذلك تتبلور المسرحة في بناء علاقة مع الجمهور من خلال تمعّن نظر الحكواتية في عيون المشاهدين أو التواصل الجسدي معهم أو التواصل معهم عبر الأغراض. تربط خضر الفعل المسرحي في الحاضر ليخدم حكاية تحكيها في الماضي. بذلك، استطاعت كمخرجة مدّ جسور بين فعل الكلام والفعل المسرحي وبين الماضي والحاضر في إطار مسرحة الحكاية.