امتدت مسيرة أسمهان (1912 ـــ 1944)، الفنيّة على مدى سبع سنوات؛ قدمت خلالها ثلاثين أغنية، وشاركت في فيلمين. في هذا الوقت القصير، سرعان ما تحوّلت نجمةً مضيئة في العالم العربي وما زالت حتى اليوم رغم مرور 75 سنة على قضائها صريعةً، بعدما فقد سائق السيارة التي كانت تقلّها وصديقتها إلى رأس البر في مصر بداعي الاستجمام، السيطرة على المركبة التي سقطت في الترعة وفرّ هارباً. حادث لم تُكشف ملابساته حتّى اليوم، ولا سيّما مدبّره. مع ذلك، لا تزال أغنيات الراحلة حاضرة في بلاد العرب. رائعتها «ليالي الأنس في فيينا» خالدة، تتردّد مصحوبة بالآهات، وغناؤها ذو النمط الأوبرالي مدعاة لجلسات سماع عامة. بيد أنّ ما يبز هذا وذاك في الحديث عنها هو أسلوب حياتها الجامح. فقد ذهبت آمال الأطرش سليلة العائلة المتحدرة من صلخد في محافظة السويداء السورية، والمولودة على متن سفينة هاربة من الحكم العثماني، بعيداً في درب التحرر الصعب. تجرأت في أوائل القرن الماضي على قطع حبل الموروث الذي يلف أعناق نساء كثيرات، ولمّا يزل. أسلوبية المخرجة الفلسطينية عزة الحسن في استرجاع محطات من سيرة أسمهان في فيلم «حضور أسمهان الذي لا يحتمل» من خلال حكايات ناس يرتبطون بطريقة أو بأخرى بصاحبة «يا حبيبي تعال»، مدعاة للثناء: سواء تعلّق الأمر بمغنية مصريّة شابة عرفت شهرةً في صفوف الشباب عقب «ثورة يناير»، أو بلاجئة أضنتها حياة فيينا إلى حدّ اتهام أسمهان بأنّها «كدابة» في تصوير رغد العيش في عاصمة النمسا، أو في سائق تعافى من إدمان الشرب، أو مترجم ذهب إلى فيينا متأثراً بأغنية «ليالي الأنس»، أو امرأة لبنانية درزية ذات أصول من صلخد تظن أن روح أسمهان تسكن فيها... هناك حميمية في السرد. يتضمن الفيلم أيضاً مقابلات مع خبراء (الناقد السينمائي المصري سمير فريد، والموسيقي الفلسطيني مروان عبادو، والمخرجة والممثلة اللبنانية الراحلة نبيهة لطفي، والمؤرخ الموسيقي اللبناني الياس سحاب) ترفده بالقيمة، من دون الإغفال عن الحرفة في «الكادرات» والتوليف والمونتاج. وبخلاف استعادات السير التي لا تخلو من تمجيد أبطالها، لا تتوانى المخرجة عن النكش في قصص أسمهان الحالكة. هي تشير إلى خيانتها لصديقتها تحية كاريوكا في أمر الزواج من أحمد سالم (حبيب كاريوكا). وتسترجع الحديث عن مجون المغنية، وحياة الترف التي عاشتها، وصلاتها المشبوهة بالمخابرات الفرنسية والبريطانية من جهة، والألمانية لاحقاً بغية التأثير في موقف آل الأطرش السياسي في جبل الدروز خلال الحرب العالمية الثانية، والأموال المغدقة عليها من هذه الأجهزة... أسمهان التي عاشت صراعات داخلية كثيرة بين المبتغى والمقبول مجتمعيّاً حتى غالت في تمردها.
تجرأت في أوائل القرن الماضي على قطع حبل الموروث الذي يلف أعناق نساء كثيرات لغاية اليوم


تبدو أسمهان نسخة غير منقحة في وثائقي تحتلّ مصر الجزء الأكبر منه. «مصر وطن كريم لكل شرقي ضاقت عليه أوطانه» كما يرد على لسان فريد الأطرش في فيلم «انتصار الشباب». علماً بأن المغنية جاءت مصر لاجئة، برفقة أمها (بعد الانفصال عن والدها) وأخويها، ثمّ «استديو مصر» حيث صوّر فيلم «انتصار الشباب» (1941 ــــ إخراج أحمد بدرخان ـ بطولة أسمهان وفريد الأطرش) الذي تحول إلى ركام بعد مرور عقدين أو أكثر من التأميم، فـ «ثورة يناير» المجهضة وكشوف العذريّة... مصر الحاضرة التي يعول كثيراً عليها في نهوض الإنسان العربي من كبوته. حينما يشارف الوثائقي البورتريه الشاعري على نهايته، يكسر الأسطرة المحيطة بأسمهان عبر شهادة مغنية شابة طالما افتتنت ببطلة «غرام وانتقام» تقرر أخيراً التمنع عن الغناء لها، بل التركيز على مشروع فني خاص بها عقب «ثورة يناير». وبذا، يوجه الشريط رسالة تدعو إلى الكف عن النهل من التاريخ الغابر، بل الانصراف في اتجاه مشروع حديث، ولو أنّ هذا الأخير غير واضح المعالم بعد، ولا شيء مؤكداً أنه سيبصر النور قريباً.

* «حضور أسمهان الذي لا يحتمل»: س: 18:30 مساء 7 آب (أغسطس) ـ «دار النمر» (كليمنصو) ـ للاستعلام: 01/367013