في كلّ مرّة، كان يتحوّل فيها الدين ليصبح أداةً في خدمة النظام الحاكم أو أقلّه تابعاً لسلطةٍ نافذة فيه، كانت البشرية تشهد ولادة دولة القهر مقابل دولة الأخلاق، وتواجه معضلة تبرير الحُكم الجائر من جانب المؤسسة الدينية ورجالها وأدواتها، وتُنثَر في مجتمعاتها بذور صراع فكري لا يشي إلّا بمأزق إنساني وحضاري.لو قُيِّض للديانات التي حرَّرت الناس من أسطورة «الملك الإله» ورفعت القدسية عن البشر والأصنام لتودعها لدى إلهٍ واحد يقرّ الجميع بسموّه وقدرته على تسيير الكون، لهَانَت حياةُ العباد، ربما. ولو قُيِّض للعقائد (الحقيقية) لهذه الديانات أن تصبح إطاراً سوسيولوجياً يلازم الفرد والمجتمع في شؤونه وقضاياه ويوجّه العقل الجمْعي، ليس للتفكير الماورائي في معاني العالم الآخر ومعايير الحساب، إنّما لتحقيق المُراد من الرسالات السماوية والدعوات والفرائض الدينية، لجَنَّبت البشرية، ربما أيضاً، نكباتٍ جمّة. لكن، لا بدّ ولا مفرّ دوماً، من إيجاد (خلْق؟) أفرادٍ وجماعات لتتولّى، باسم الربّ وخلفائه على الأرض، إعادة عقارب الزمن إلى عصور الأدغال والظلام والجهل والخرافة، وإكراه جموع المؤمنين والناس، عموماً، على الانصياع الأعمى للحكّام والقادة و.... رجال الدين. وهؤلاء، تحديداً، يصولون ويجولون، كلّ بضع سنوات و«غبّ الطلب»، كي يدمجوا، قسْراً، بين التديّن والدولة، وبين المقدّس والدنيوي، وبين العقيدة والحقوق، وبين الإيمان وتهديد المصير، ما نقل الدين إلى نوعٍ من الهيمنة السوسيولوجية، التي باتت، في العالم بعامّة وفي الحال العربية بخاصّة، أشبه بالوعاء الخاوي الذي يتمّ ملؤه وشحنه كلّما اقتضت الحاجة لذلك.

أعضاء فرقة «مشروع ليلى»: من اليمين فراس أبو فخر وكارل جرجس وحامد سنّو وهايغ بابازيان (القرفصاء)

يحيا العقل العربي، في جزءٍ كبير منه وفي مستوييْه النخبوي والشعبوي، على سوسيولوجيا الهيمنة الدينية اللاعقلانية التي شكّلت، دائماً وأبداً، السدّ المنيع أمام كلّ محاولةٍ للخلاص العقلاني، بينما تؤمِّن الدولة العربية الحديثة الرعاية، من خلال تعسّفها واستبدادها، لتجذير هذه الهيمنة الدينية، في حين ينشغل رجال الدين، بدورهم، بتشريعها تبريراً وتأويلاً.
والخطير في كلّ ذلك، هو تحوّل سوسيولوجيا الهيمنة الدينية هذه، إلى ثقافةٍ شعبية وأنماطٍ سلوكية تسبغ طابع القدسية على العديد من الأفكار والاجتهادات الفردية (الخاضعة غالباً لمصالح شخصية)، فتصبح الـ «مرجعية» التي يجري الهروب إليها في أوقات المحن والأزمات والنكبات، على أنواعها. في لبنان، المرشّح لدخول موسوعة «غينيس» بفضل تسجيله رقماً قياسياً في اجتراح أشكالٍ وصنوفٍ لهذه المحن والأزمات والنكبات، تأخذ الأمور، على الدوام، أبعاداً وتوصيفات مختلفة، تمنح القواميس العربية تعابير ومفردات ومفاهيم في السياسة، كما في الاقتصاد والاجتماع والقانون والثقافة والإعلام والفن. أمّا الجديد- القديم في كتاب حكايانا اللبنانية، فهو إجراءٌ نادر لجأت إليه إحدى اللجان المنظّمة للمهرجانات الدولية في لبنان، قضى بإلغاء حفل غنائي كان مُدرَجاً على جدول حفلات «مهرجانات بيبلوس الدولية» في التاسع من الشهر الجاري، كانت ستحييه فرقة rock تسمّي نفسها «مشروع ليلى».
هذه الفرقة (التي تأسّست قبل عشر سنوات) سبق أن قدّمت عروضاً في مختلف أنحاء لبنان والدول العربية والولايات المتحدة وأوروبا، وهي تتألّف من أربعة أعضاء أتوها من طوائف ومناطق وهويات مختلفة، لكنّ رئيسها يجاهر بمثليته الجنسية. لم تبقَ موبقة إلّا ونُسِبت لهذه الفرقة التي تتمحور كلمات أغانيها حول الاضطهاد والطبقية والطائفية ورهاب المثلية، فاتُّهمت بتهمٍ مختلفة: مرّةً بتسويق الفنّ الهابط، ومرّةً برفعها الراية الملوّنة بألوان قوس قزح (التي ترمز إلى المثلية الجنسية)، ومرّةً بالتبشير بديانةٍ جديدة، ومرّةً بعبادة الشيطان، ومرّةً بالهرطقة على صلواتٍ مسيحية... وصولاً إلى تهمة المسّ بالمقدّسات المسيحية. وهذه التهمة الأخيرة، كانت بمثابة القشّة التي أفاضت كأس الصبر المرّ والعنفوان المجروح والكرامة المهانة، في زمن استهداف الميثاقية الوطنية والتوازن الطائفي والمناصفة التوافقية. ثارت العصبية المسيحية لتصرخ «يا غيرة الدين»، كيف تجرّأ المدنَّس على المقدَّس وكيف تطاول «الصغار» على «الكبار»، وكيف كُسِرت هيبة حصانة الهيمنة الدينية (آنفة الذكر)؟ وتهمة المسّ بالإيمان المسيحي والقيم والمقدّسات الدينية والإنسانية (بحسب بيان لجنة المهرجانات الذي ألغى الحفل حقناً للدماء)، لا يمكن إلّا أن تُحرِج الغيورين، ولا سيما متى فُتِح بازار المزايدات الطائفية. عُبِّدت الطريق كي تسلك الحملة المبرمجة على الفرقة المذعورة مسلكاً عنيفاً غير مسبوق (مسيحياً)، وتصل إلى حدِّ إهدار دمها والتهديد بمحاكمة أعضائها في شوارع «مدينة التعايش والثقافة- جبيل» (بحسب البيان ذاته). وبدأ سيل الهاشتاغات بالتدفّق: «دمكم عليكم»، «ما رح تقطع» (أي الحفلة)، و«إذا ما التغى نحنا منلغي»، «لن يمرّوا»، «معركتنا في 9 آب هي معركة حياة أو موت»، «لاقونا واتكلو علينا والباقي تفاصيل»...

من الوقفة التضامنية في وسط بيروت قبل أيام

وهكذا، أطلّت داعشية جديدة على الشعوب اللبنانية، لتحرِّك المياه الآسنة في هذا البلد بعصا ترهيب الحريات ونبش قبور الظلامية والزندقة والتكفير، ما استدعى تدخّل المنظمات الحقوقية لوقف هذه المسرحية الجديدة على أرضنا. وشجبت منظمة العفو الدولية، بلسان لين معلوف مديرة البحوث للشرق الأوسط، حملة الكراهية التي استهدفت فرقة «مشروع ليلى» واعتبرت قرار منع حفلتها «ضربة قوية للحقّ في حرية التعبير في لبنان». والسيدة معلوف، التي أشارت إلى ما يشبه التحذير الضمني لدولتنا العليّة، رأت أنّ ما حصل في جبيل إنّما «يكشف تنازل السلطات اللبنانية عن مسؤوليتها لضمان حماية الفرقة، وتقاعس الحكومة عن اتخاذ موقفٍ قوي ضدّ الكراهية والتمييز، ووضع التدابير اللازمة لضمان إقامة الحفل».
طبعاً، لن يؤخذ رسمياً بكلام المسؤولة الدولية (كما هي العادة في بلدنا)، لكنّ ما قالته يغذي قلق كلّ مواطن لبناني، من أن يكون الآتي أعظم في مصير أيٍّ منّا، أي مصير مُطلَق لبناني (أو غير لبناني ينتمي إلى دول الجوار حصْراً) قد تسوِّل له نفسه يوماً بأن يقوم بسلوكٍ لا يروق للسلطات السياسية أو الطائفية أو الحزبية أو الدينية.... أو حتى لمجرّد نفرٍ من أنفار رجال الدين المنبوذين والمرتكبين. فهذا ما حصل، بالضبط، مع الفرقة المسكينة التي غنّت، منذ ثلاث سنوات، الأغاني «المشبوهة» إيّاها، ولم يقل لها أحدٌ حينذاك «مَحْلا الكحل بعيونك». لكن هذه السنة، وفي ظلّ الهمروجة السياسية المستعر خطابُها المُطالِب بـ «استعادة الحقوق الضائعة للمسيحيّين»، اختلف الأمر كثيراً؛ إذْ فكّر أحدُ الكهنة الصادر بحقّه حُكْم كنسي تأديبي يحظّر عليه أيّ نشاط ديني، وقال في سرّه: «لمَ لا تقطفها يا رجل، وتفجّرها معركةً رابحة تعيدك إلى الواجهة؟» وهذا ما حصل. نشر هذا اللبناني الوَرِع فيديو الشرارة على مواقع التواصل الاجتماعي، وضمّنه كلّ الاتهامات المذكورة أعلاه للفرقة، مع التوضيح لمن لا يعرف بأنّ اسمها يشير إلى «ليل الظلم الأبدي»، فأيقظ كاهننا المغوار شيطان التعصّب ليفعل فعله في النفوس، فعْل الغيث في الأرض العطشى، وكان ما كان.
يحيا العقل العربي على سوسيولوجيا الهيمنة الدينية اللاعقلانية


في حزيران (يونيو) 2017، نشرت مجلة «ساينس دايركت» العلمية دراسة أعدّها جوردان غرافمان (من جامعة «نورث ويسترن» الأميركية) وطبّقها على عيّنة من مئات المحاربين القدامى في فيتنام، فأظهر بحثه أنّ زيادة نِسَب «الأصولية الدينية» أو «التعصّب والتطرّف الديني» لدى أيّ شخص، سببها «خلل عضوي» في منطقة معيّنة في الدماغ. في لبنان، كلّ المحاربين القدامى والجُدد ما زالوا، بمعظمهم تقريباً، على قيد الحياة ولا يزال غصن تعصّبهم غضّاً (؟)، فهل يا ترى، هناك أمل بمعالجة هذا الخلل الدماغي لديهم قبل فوات الأوان؟
غنّت فيروز عام 1972 من كلمات الصمة القشيري «إذا كان ذنبي أنّ حبّكِ سيدي فكلّ ليالي العاشقين ذنوب، أتوب إلى ربّي وإنّي لمرةٍ يسامحني ربّي إليكِ أتوب»، لم تتحرّك أيّ جهة لتتّهمها والرحبانييْن بالتجديف والكفر والإشراك. بطبيعة الحال، المقارنة لا تقوم بين الجانبيْن، فشتّان ما بين ثريّا فيروز وثرى فرقتنا الممنوعة من الغناء، لكنّ كلّ خوفنا يكمن في نقطة واحدة، هو احتمال أن يَهزم كلَّ مشروع لليلى من الليلات في هذا البلد، مشروعُ ذئبٍ من الذئاب الشاردة. اقتضى الخوف.

* أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية