بقدر ما يعارض اليمين التقليدي، اليسار تاريخياً، إلا أنهما يتقاربانِ في نقطة مركزية، هي: الأهمية التي يوليها العمل للتحرر البشري. لودفيج فون ميزس وكارل ماركس ذوا الآراء والمفاهيم المختلفة طبعاً، يعلقان قيمة أخلاقية كبيرة على العمل. وقد بُنيت المجتمعات المعاصرة الغربية والشرقية، اليمينية واليسارية، على فكرة أن العمل يعزز الرجل، ويصبح ركيزة دعم الأسرة وفخر الوطن. لهذا السبب، يصبح الشخص العاطل من العمل على الفور «متشرداً»، فرداً بلا قيمة. فالمواطن الجديد يقاس بقدراته الإنتاجية. اللافت أنّ هذه الفكرة لا تزال موجودة في القرن الحادي والعشرين وذات قيمة كبيرة في المجتمعات. لكن هناك إضافة جديدة إلى فكرة العمل والوظيفة اليوم، هي «ريادة الأعمال» أو entrepreneurship والخطاب المستخدم للدفاع عن كون الإنسان «رئيس نفسه»، فهو يمكنه البدء بعمله والإفادة من العائد المادي الذي يحصده من قدراته الشخصية.هناك أسطورة نيوليبيرالية متكررة، حاضرة ولا سيما في هوليوود تقول إنّ أي شخص يمكنه أن يصبح ما يريد. وإذا كان هناك مخرج واجه هذا الدفاع عن «الحلم الأميركي»، فهو البريطاني كين لوتش. في فيلمه الجديد «عذراً لم نجدكم» (Sorry We Missed You ــــــ 2019) الذي شارك في «مهرجان كان السينمائي» الأخير، توغل لوتش كعادته في النضال اليومي لأكثر الفئات حرماناً، في ظلّ النظام الرأسمالي المسيطر على أكثرية البلاد، خصوصاً بريطانيا. عرّاب السينما اليسارية الأوروبية يدخل هنا في ظروف العمل الصعبة التي ينوء تحتها أولئك الذين يُعرفون بـ «العاملين لحسابهم الخاص». النساء والرجال الذين وجدوا في العمل الحر و«ريادة الأعمال» وسيلة جديدة للعبودية، مع وهم أسلوب الحياة القائم على حرية الإدارة التي تنبثق من العمل الحر. بطل هذه الدراما غارق تماماً في وضع خانق يؤدي حتماً إلى مشكلة كبيرة يستحيل الهرب منها. على الرغم من التعامل بنحو واقعي وموثوق، إلا أنه نظراً للتشاؤم الحتمي لمجتمع رأسمالي منكسر، فإن الكارثة واقعة لا محالة. في «عذراً لم نجدكم»، لا يكرر لوتش الصيغة المعتادة والصرخة العالية التي اعتدناها في أعماله، بل يأخذنا أيضاً إلى مستويات لا تنسى من الحدة والتشويق. هذه المرة الضحية هي مفهوم «ريادة الأعمال» في سياق الرأسمالية الحالية.
«عذراً لم نجدكم» هو الرسالة التي تتركها شركات الشحن للعميل، عندما تصل لتوصيل الطرد إن لم يكن موجوداً في المنزل. تسليم البضائع وظيفة قيّمة، خاصةً عندما تسمع كلمات الترحيب من رب العمل «الشريك». فالشركة هي شركة عصرية بامتياز لا تستخدم سوى المتعاقدين المستقلين. بعدما عمل رب الأسرة ريكي (كريس هيتشين) في مجالات كثيرة آخرها البناء، يبدأ حلم الوظيفة المستقلة في توصيل الطرود إلى العملاء. تعيّن على ريكي شراء شاحنة صغيرة (فان) بالتقسيط كي لا يكون «موظفاً»، بل «شريكاً» لا يتقاضى «راتباً» بل «أتعاباً»، ولا يكون مخنوقاً في «دوام عمل»، بل «حراً في ساعات العمل». لكن حلم الوظيفة المستقلة تبدّد: ايقاعات عمل لا إنسانية، ساعات عمل تخضع لرقابة إلكترونية صارمة. عدد كبير من الطرود يجب أن تصل في الوقت المحدد. إذا مرض أو تغيّب يوماً أو بضع ساعات عن العمل، لا يُحسَم من «الاتعاب» فقط، بل يدفع الموظف أيضاً كلفة البديل الذي تأتي به الشركة. ساعات عمل «حرة» تصل إلى ١٤ ساعة لدفع قسط الشاحنة وإعالة الأسرة وتسليم الطرود من دون إنذارات أو شكاوى. ريكي منظم جداً، فهو مضطر إلى التنافس مع نفسه، مع إيقاعه وعواطفه وإنسانيته. مع غياب الأب والأم آبي (ديبي هنيوود) التي تعمل ممرضة منزلية (دفع مقابل الزيارة) وضغوط العمل وعدم وجود وقت لتكريسه للولدين، يصبح كل يوم عمل حقل ألغام لمغامرات محتملة. الأسرة الصغيرة السعيدة في نيوكاسل تتفتت بسرعة تحت ضربات المضايقات الاقتصادية والاجتماعية اليومية، والتعب، والتوتر، والقلق المتزايد. لحظات هدوء معدودة قبل أن يعود أفراد الاسرة إلى حلقة من الدمار العاطفي. من هذه النقاط يمضي لوتش وصديقه بول لافيرتي، كاتب السيناريو المعتاد لأفلامه، بطريقة حادة للقول إن هذا النوع من العمل يحوّل «الشريك» إلى عبدٍ لهذا النظام واللوائح الإلكترونية والبروتوكولات، بالإضافة إلى كونه خطيراً جسدياً ونفسياً، فبدل أن تعمل لتعيش، بتّ الآن تعيش لتعمل كما تقول الحكمة الشعبية.
الفيلم إثبات جديد لصفات لوتش وتقنياته التقليدية: الواقعية الاجتماعية، الضوء الطبيعي في أوج الحدة العصبية للشخصيات، معرفة لغة الطبقات المحرومة وإيماءاتها، الصورة ذات الإطارات المتكررة داخل المنزل، الألوان المحايدة والضغط الاجتماعي لإعادة إنتاج التعب. لكن في الوقت نفسه هناك حنان واضح يظهر عند ريكي، والزوجة المهتمة «آبي» والابنة «ليزا»، وايضاً الابن المتمرد «سيب» الذي يرفض الأب بسبب اعتباره خاضعاً للنظام. وكعادة المخرج، تمتلئ المشاهد الدرامية بلحظات من الفكاهة، لكن الوضع صعب. بالنسبة إليه، النظام مكسور، ولكن الفرد ما زال يحافظ على قدرته على التضامن. هذا لا يمنع أن تكون هذه الدراما هي الأكثر تشاؤماً وحتى دماراً للمخرج. يُعرف لوتش بلهجته التصالحية، لكن هذه المرة لا يرى بديلاً من الحدة. يمزج الفيلم بمآسٍ يونانية ومعاصرة. يقوم السرد النصي بإعداد قنبلة بهدوء، لتفجيرها فقط في النهاية، ورفض جمع القطع أو تحليل النتائج في الوقت نفسه. يجري غليان الشخصيات والجمهور على حد سواء، ونشهد سلسلة من انتهاكات القيم العمالية وتحديثها.
فيلم عن النساء والرجال الذين وجدوا في العمل الحرّ وسيلة جديدة للعبودية


لوتش مخرج من أواخر اليساريين الأصليين. بعيون حنونة، يستخدم السينما لإظهار الأضرار التي يسبّبها النظام الرأسمالي والنظام الاجتماعي البريطاني للطبقة العاملة. بحوزته سعفتانِ ذهبيتانِ من «مهرجان كان» أُولاهما في ٢٠٠٦ عن فيلم «الريح التي تهزّ الشعير»، والثانية عام ٢٠١٦ عن فيلم «أنا، دانيال بليك». هذه السنة عاد من المهرجان من دون سعفة، لكن بجدية أكبر وبصيرة عصرية أقوى. لا يهمّ في سينما لوتش وجود ابتكار بصري، لأن التكرار عنده رسالة مبدئية ومحدثة. استغلال النظام للطبقة العاملة مدمّر كما كان دوماً، وهو يواصل عصرنة الأعمال (أوبر، أمازون...). لذلك، فسينما لوتش دائماً ما تتمتع بشيء جديد، ولو كان استخدامها لحركات الكاميرا كلاسيكياً للغاية.
ما فعلته النيوليبرالية بالنسبة إلى لوتش هو تفتيت النسيج الاجتماعي، وشلّ القوة الشعبية وخلق صحراء اجتماعية لا ترتوي إلا بالاستهلاك، لذاتية الشركات الكبيرة. ليس للعائلة البريطانية التي صورها لوتش وقت للرعاية أو للحب أو بساطة العيش. فقط العمل والاستهلاك لمصلحة المستفيدين. وهنا نصل إلى أكثر الأجزاء إثارة في الفيلم، هو التركيز الكبير على الولدين. هناك هالة من اليأس وقلة الفرص التي يتقاسمها أطفال العمّال. بالنسبة إليهم، لا قيمة للدراسة أو البحث عن وظيفة. في عام ١٩٧٧، حطّم كتاب عالم الاجتماع البريطاني بول ويليس الأسطورة الليبرالية في كتابه «تعلم العمل: كيف يحصل أطفال الطبقة العاملة على وظائف الطبقة العاملة». يبدو أن العائلة التي صورها لوتش مأخوذة من هذه الفكرة والكتاب، إذ سعى المخرج إلى فهم سبب ترك شباب الطبقة العاملة المدرسة في أول فرصة للتغيير في حياتهم. تستمر الرأسمالية بالضغط على الطبقة العاملة منذ ما قبل كتاب بول ويليس إلى فيلم لوتش الأخي، وليس هناك أي جديد تحت الشمس!