1- إعادة الإعمار في دمشق: الذاكرة، والتاريخ، والتراث، والهويةنشير بداية، إلى أن النمو الديموغرافي في مدننا في الوطن العربي، هو نمو غير عادي من 4% إلى 6% سنوياً. حشدت السلطات بعد الاستقلال، طاقاتها الإنمائية في العاصمة والمدن الرئيسة، فأفقرت الأرياف وسكانها، وانحشر هؤلاء في زواريب المدينة، أو أنشأوا مستوطنات «غير قانونية». يعيش في مدننا، ما يناهز الـ 80% من عدد السكان. في مثل هذه الخاصيات، استدعت السلطات في سوريا ولبنان أيضاً، مخطّطي مدنٍ فرنسيين بمعظمهم، ليخطّطوا مدننا، متأبطين مفاهيم التنظيم المديني الحديث، بعيدين عن القراءة الصائبة، في البنى الفعلية لمجتمعاتنا. وكل من يقارب إشكالية إعادة الإعمار في سوريا اليوم، وفي دمشق خاصة، عليه أن يحقّق، الضرورات العمرانية، والمدينية، والإنسانية، التالية:
الحرص في المحافظة على صورة العاصمة دمشق، وموقعها ودورها... هذه الصورة التي تعكس تراكم التاريخ فيها. والحرص بالتالي، في المحافظة، على هُويتها، وعلى انتمائها الحضاري، وحماية الآثار، والأوابد، والمعالم فيها. وهي رموز لمكانة المدينة التاريخية، وأمكنة صلبةٌ للذاكرة الجماعية فيها. ولا ننسى التراث المتراكم فيها عبر الحقبات، التي ذُكِرَتْ بالتفصيل، في بداية هذه الدراسة.

الزبداني – إعادة الإعمار كاملاً (الصورة للباحث)


1-1- الرؤية الإدارية لدمشق وكامل محيطها والمخطط التنظيمي الشامل للمنطقة بكاملها.

1-1-1- الرؤية الإدارية، لدمشق ولكامل محيطها، «محافظة دمشق الكبرى»
يعيش في دمشق الإدارية أي دمشق العاصمة، ما يقارب 1,700000 نسمة، ويعيش في ريف دمشق، أي في الغوطتين، وفي الجبال عند وادي بردى، وفي القلمون، ما يقارب 2,700000 نسمة، أي ما مجموعه 4,4 مليون نسمة.
تقسم المنطقة بكاملها إدارياً، إلى محافظتين: محافظة دمشق ومحافظة ريف دمشق.
تسعى العواصم الكبيرة اليوم، إلى حل الإشكالات التي تحصل بينها وبين الضواحي، عبر إلغاء مفهوم الضاحية، وضم كل الضواحي التي تحوط العاصمة الكبيرة إليها، بحيث نتكلم عن «المدينة الكبرى». لا وجود للضواحي في لندن مثلاً. فالمدينة هي «المدينة الكبرى». ضاحيتها الغربية هي غربها، والشرقية شرقها. وتقوم عندها في «المدينة الكبرى»، الخدمات ذاتها بإدارة واحدة، وتمويل واحد، وجودة واحدة، وهاجس في الوحدة واحد، فتوصل الضواحي السابقة بوسائط النقل الراهنة، من مترو، وسكك حديد، وحافلات للنقل العام. وتكون كل الخدمات والتجهيزات مشتركة، وبإدارة واحدة، وبحرص على الجودة، وبنفقات مالية واحدة.
عندما عُقِدَتْ في باريس ندوة حول قراءة باريس الكبرى إدارياً، وشارك فيها نجوم المخّططين في الغرب اليوم: نورمان فوستر، وريتشارد روجرز، وجان نوفل، ودومينيك بيرو، وغيرهم، كانت التوجهات متطابقة، أهمها:
- إلغاء مفهوم الضاحية مع كل ما يعنيه في فرنسا من دونية، وتمييز عنصري، يطالُ المهاجرين، والعرب المغاربة منهم حصراً.
- وصل هذه الضواحي بعضها بالبعض الآخر مباشرة، من دون اضطرارهم إلى المرور بعقدة المواصلات (شاتليه) وبقلب العاصمة باريس.
- ضم هذه الضواحي إلى المدينة الأم، وتسميتها «باريس الكبرى»، وكل ساكن في باريس الكبرى هو ساكن في إحدى دوائرها الصغرى: باريس الأولى، أو باريس الرابعة عشرة، أو باريس الجنوب، أو الغرب...
- استعمال وسائل النقل غير المضرة بالبيئة، كالدرَّاجات الهوائية، والسيارات الكهربائية.
- وسائل النقل هذه، لا تستدعي مسارات عريضة، لذا ارتأى المنتدون أن يصار إلى تعريض الأرصفة، على أن تُلحظ فيها مساحات خضراء، تنساب كالأنهار داخل المدينة.
- وإذا رجعنا إلى ما ورد في دراسة الصديق يسار عابدين، المذكورة مراراً في هذه الدراسة، واسترجعنا ما قاله حول محافظة العاصمة التي تَعتَبِرُ محافظة ريفها، حديقتها الخلفية تشرب ماءها، وتتملَّك أرضَها، وتجعلُها مصبّاً لمياهها المبتذلة ومكبَّاً لنفاياتها... إذا رجعنا إلى ما ورد في الدراسة المذكورة، أدركنا الأهمية التي يرتديها إلغاء مفهوم الضاحية، واستبداله كما في لندن، وكما يخطَّطُ لباريس، بمفهوم قسم إداري من أقسام متساوية، تديرها محافظة واحدة هي «محافظة دمشق الكبرى». تنظر إلى مكوناتها الجغرافية والسكانية نظرةً واحدة، بتنظيمٍ واحدٍ، ومعايير للإنفاق والعناية واحدة.

جوبر – إعادة الإعمار كاملاً (الصورة للباحث)

وفي محافظة مدينة دمشق العاصمة، مجلس بلدي منتخب، مرتبط بعلاقة وثيقة مع محافظ المدينة. وفي كل بلدةٍ أو مدينة في محافظة ريف دمشق، مجلسها البلدي المنتخب، المتعاون مع محافظها. وربما ساهم في الخروجُ من نفق التناقضات، استحداث اتحاد لبلديات محافظة «دمشق الكبرى»، يواكب محافظها، وينسق معه بانتظام.

1-2- المخطط والتنظيم المدينيين لمحافظة دمشق الكبرى

1-2-1- نعمّر دمشق الكبرى أم نعمّر ما دمَّرته الاشتباكات الحربية فيها!؟
كثر هم المعماريون، وأكثر منهم مخطّطو المدن ومنظّموها، الذين يعتقدون أن الدمار الذي تخلّفه الحروب، هو أقصر الطرق إلى تحقيق أحلامهم في بناء مدن مثالية، فيهدمون المباني المتصدّعة جزئياً، حفاظاً على السلامة العامة... يزعمون. ويزيلون الطرق الرئيسة، والطرق الفرعية، والساحات إن وجدت. يهدمون كل الرموز والصروح. يزيلون كل أثر للماضي، وكل معلم يداعب الذاكرة. باختصار يوسّعون المجالات المدمَّرة أضعافاً، فتبدو لهم «طاولة المكان» فسيحة، فارغة، نظيفة، إلا من أوهامهم، التي سيرصفونها في مخططاتهم الجديدة، وقد استعملوا في كتابتها، أكثر التقنيات الرقمية إبهاراً. ثم يعمدون بعد ذلك، إلى ضمّ وفرزٍ جديدين، وإلى إعادة رسم العقارات، وتغيير أشكال الوحدات المبنية، وتوسيع الطرق الرئيسة وجعلها مستقيمة، وتعديل كل المخططات القديمة. باختصار، سيتصورون مدناً مثالية، تقوم في الأمكنة الشاسعة الفارغة. مدن مثالية نظيفة، كل ما فيها منتظم، يسكُنها ناسٌ آليون، يعملون «بالريموت كونترول».
تجنب عمارة الأبراج الكارثية والتلطّي بالتحديث لزرع نسيج مبني مغرّبٍ


كُثرٌ من هؤلاء، هم مثاليون حقيقيون، تمتزج عندهم الرغبة الصادقة بتحسين الأطر المبنية حيث يعيش الناس، بالشطط الفكري وبالأوهام. إلا أن خطاب كثرٍ منهم، إنما يشكّلُ القناع الذي يختبئ وراءَه رأسُ المالِ المتوحّش، والشركات العقارية الضخمة. ولنا في شركة «سوليدر»، مثال صارخ على ذلك. إذ هدمت الشركة العقارية قلب بيروت التاريخي، ونظَّمت تخمينات، ظلمت المالكين وأصحاب الحقوق. فتملَّكت الشركة العقارية قلب المدينة، لا بل تملّكت معظم ما يصنع تاريخها. تملَّكت واجهتها البحرية مدمّرة ميزة المدينة الرئيسة وهويتها، وهي علاقتها التاريخية بالبحر. ردمت البحر، وزوَّرت الشركة تاريخ الأمكنة، ثم باعت الأراضي، من شركات عقارية عملاقة، لتبني فوقها الأبراج، يملكها أغنياء لم يأتوا. فبقيت فارغةً، تحكي فراغ قلب المدينة التاريخي. لن يقوم في ناطحات السحاب هذه مجتمع، ولن تقوم فيها مدينة. وكل نزهة هناك، تروي هذه الحقائق الموجعة.

1-2-2- هل هذه مقدّمة، للإشكالية: نعمّر دمشق الكبرى أم نعمّر ما دَّمرته الاشتباكات المسلَّحة فيها!؟
أجزم أنها في صلب الإشكالية، لأنني أردتُ الإشارة ثانية، إلى موضوعتين، ذكرتهما في بداية البحث في إعادة الإعمار:
الأولى: المبالغات المنهجية، التي ترافق كل بحث في إعادة الإعمار.
والثانية: الأطماع بأرباحٍ، تُجنَى عَبْرَ الطموحِ إلى التصحيح، والتحسين، الذي يرافق إعادة الإعمار، فأشرتُ إلى أن الإعمار في دمشق جزئي... ما دمرَّته الاشتباكات المسلحة فيها، وفي محيطها.
فالمعاينات الميدانية في دمشق العاصمة، أكرِّر، تشير إلى أن الإصابات فيها موضعية، والمعالجات هي بروح النسيج المبني القائم. والمنظّم المدينيُّ هنا، يقوم بدور الرتَّى، كما تم إنجازه في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد حرب عام 2006، التي شنَّها الكيان الصهيوني على لبنان. وقد تم ذلك بنجاح مع «مشروع وعد». أما المعاينات الميدانية في «دمشق الكبرى»، فهي تحكي دماراً كلياً في أجزاء منها، وجزئياً في أماكن أخرى، أتينا على ذكرها سابقاً، بالتفصيل.

1-2-3- ما العمل في مثل هذه الحالة؟ نتساءَل!؟ الإجابة مزدوجة، بازدواجية الحالة الميدانية.
في مجالات الدمار الشامل، نعيد الإعمار كاملاً، مع التحسين المطلوب، من دون مبالغة منهجية، وبعيداً عن أي تنظيم مديني مكلف، فتتم المحافظة على الجادات العريضة، والشوارع الرئيسة، والدروب المتفرعة منها. فهي الحاملة العنيدة، للذاكرة الجماعية لناس الأمكنة. كما تتم المحافظة على المجالات العامة المفتوحة كلها. وتتم المحافظة على قياسات العقارات، وعلى قياسات الكتل التي سيعاد بناؤها. فيأتي النسيج الذي أعيد بناؤه، حاملاً روح النسيج المدمَّر، وطابعه. تهدف كل هذه الجهود المبذولة، إلى عودة النسيج الاجتماعي. عودته متماسكاً، بعيداً عن الإقصاء، والتهميش. لذا تُلزِمُ هذه الاشتراطات المكلَّفين بإعادة الإعمار، بإعادة إنتاج علاقة الناس بالأمكنة، بحيث لا يشعرون عند عودتهم بأيّ غربة. وعلى النسيج المدينيّ المبنيّ الجديد، أن لا يبدو غريباً لدى المجمَّعات المجاورة، التي سترمَّم وتجدَّد.

القابون – إعادة الإعمار كاملاً (الصورة للباحث)


- 2- في إعادة الإعمار، حيث الدمار الشامل

تجنب عمارة الأبراج الكارثية، وتجنب التلطّي بالتحديث لزرع نسيج مبنيّ، مغرّبٍ. الانزلاق في هذه الاتجاهات ممكنٌ. فكثر هم الذين يعتقدون أنَّ الحرب فرصة، أكرّر مضطراً. فيندفعون نحو نسيج مبنيّ غريبٍ، لُحمته اصطفافٌ عسكريٌ لمجموعةٍ من الأبراج، وسُداه، الزجاج يسيطر في حضوره، ملَّون لمَّاعٌ، دلالة التكنولوجيا المتقدمة يقولون. تزيّن مجموعة الأبراج هذه، المدينة «بالحداثة» المطلوبة، وتخرجُها من مشهدِ الإهمالِ والتخلف. واللافت في كل هذا، أن ما يتم اقتراحه، ما هو إلا تأليف عتيقٌ، منقولٌ عن تجارب في التنظيم المديني عرفها الغرب الكولونيالي، بعد الحرب العالمية الثانية. قد نجدُ في بعض عماراته، فذلكةً في الزينة، وفي صنع الأشكال، وربما في بعض الاجتهادات الإنشائية أحياناً. إلا أن التأليف المقترح، يبقى جسماً غريباً، أُسقط في أرضٍ ليست أرضه، وفي أمكنة ليست أمكنته، ولناس مفترضين، هم بالتأكيد ليسوا ناسه. لأن الناس هنا، هم ناس المكان. الغربة، والافتعال، لا يحجُبهما الكلامُ عن التكنولوجيا المتقدمة، والإطنابُ بالجهدِ الإنشائي. إنها ليست حلولاً. إنها فقَاعاتٌ يسمّيها البعض مساكن. ومجرَّد اقتراحها كحلّ لإعادة الإعمار في دمشق الكبرى (جوبر، القابون، حرستا، دوما...) سيؤدي حتماً إلى النتائج التالية:
1 إذا كان عند بعض النازحين أو المقيمين، القدرةُ الماليةُ على الانتظار والعودةُ عند انتهاء البنيان، فهو بالتأكيد لن يعود. لأن من اعتاد السكن في نسيجٍ مبنيّ، له علاقةٌ واضحةٌ بالأرض الصلبة تحت قدميه، فهو لن يستبدل هذه العلاقة الإنسانية، بفقاعة معلَّقةٍ بين الأرض والسماء.
2 أما الأكثرية، فهم سيتخلون عن حقوقهم (كما يحدث الآن داخل دمشق العاصمة) وستصبح الأراضي ملك رأس المال العقاري الجشع. لقد اعتادوا على الإفقار، والتهميش، والنزوح بفعل سياساتٍ خاطئة متكررة. فلا بأس، إذا تكرر الوضع ثانية.
3 أرى في مثل هذا المسار الفكريّ، نهجاً تهجيرياً واضحاً، يحمل في طياته، بذور تكرارٍ للأزمة. هذا إذا قرأنا بعناية، دراسة صديقنا يسار عابدين.
الترميم، في زملكا، وعربين، وعين ترما، وسقبا، وحمورية، وداريا، وغيرها، حيث النسيــج قد أصيـب موضعياً، وهو مسكون بمعظمه. الترميم حتمي. أوضاع النسيج المبني في «دمشق الكبرى»، تطرح موضوعياً إشكالية مزدوجة، إعادة الإعمار كلياً من جهة، والترميم من جهة أخرى. عالجنا إعادة الإعمار في الفقرة السابقة. والترميم هو موضوعنا في هذه الفقرة.

حزة ــ دمار جزئي ــ ترميم (الصورة للباحث)

النسيج المبني، موجود في المدن أو البلدات التي ذكرناها. والمعاينةُ تُظهر أن المباني لا تزال تحدُّ الشوارع من الجهتين. الهيكل الخرساني في بعض هذه المباني، متصدّع متداعٍ ويهدِّد السلامة العامة، والبعض الآخر يبدو في وضع سليم، وقد أصابته الشظايا. الموقف الرئيس من هذه المسألة المعقدة، نختصره بتوصية رئيسة: عدم توسيع رقعة الدمار، بافتعال هدمٍ تختبىئ خلفه رؤيةٌ جماليةٌ، أو طمعٌ بربح إضافي. وفي مثال من عندنا، مرة أخرى، أذكر أن السلطة في لبنان، استدعت في عام 1978 المكتب الباريسي للتنظيم المديني (Apur)، لمساعدة فريق لبناني مختص، للوصول معاً إلى الحل الأمثل، لإعادة إعمار قلب بيروت. كان الاعتقادُ السائد في حينه، أن الحرب قد انتهت، وقد حان الوقتُ لاختيار أفضل الحلول، لإعادة قلب بيروت إلى حالته الطبيعية. جالت المجموعة المشتركة، وقوَّمت وضع المباني الإنشائيّ، والمعماريّ، والقانوني. وخُلصَت إلى توصياتٍ عديدة أهمها:
* عدم توسيع رقعة الدمار.
* هدم المباني التي تهدّد السلامة العامة.
* ترميم كل المباني المتبقية.
وأُعِدّ، انطلاقاً من هذه الرؤيا، مخطَّط شامل لقلب مدينة بيروت يحاول حيث أمكن، تسهيل العبور المتزايد للسيارات بتوسيع بعض الطرقات، وذلك بما لا يؤدي إلى أي تهديم إضافي. ولحظِ نفقٍ أو أكثر، تحت الطريق عند التقاطعات الهامة.
أُقر المخطط. لكن الحقيقة المرة كانت، أن الحرب لم تتوقف.
في مثالنا، العائد إلى البلدات المذكورة، أرى أن اعتماد التوصيات ذاتها هو توجُّه صائب:
* التوصية الأولى: عدم توسيع رقعة الدمار، بهدمٍ مفتعلٍ غير ضروري.
* التوصية الثانية: وحدها السلامة العامة، هي التي تحدد: الهدم أو عدمه.
لذا وجب القيام بدراسةٍ مهنية للمباني المتضرّرة، تُحدّد أن هذا المبنى، أو أن هذه المجموعة من المباني، تشكّل تهديداً للسلامة العامة. لذا، من الواجب هدمها.
نعيد ملء المجالات التي أحدثها هدم بعض المباني، ببنيان جديد، يأوي كل الذين كانوا يسكنونها، ويؤدي في النسيج العام المحافظ عليه، الوظائف ذاتها، التي كانت تؤديها المباني التي هُدمت. ثم نرمّم كل المتبقي، بلغة معمارية تكتبها لغة النسيج الموجود، الذي قد تم ترميمه وتجديده، وكسوته برداءٍ راهنٍ، روحه من روح المكان. يعود ساكنوه القدامى إليه، فلا يُصدَمونَ بجديد غريب، يُفرَضُ من خارج نطاق ذاكرتهم الجماعية.
أما صورة أمكنة العودة هذه، ودورها في رسم الصورة العامة لـ «دمشق الكبرى»، فهي جزء من كل، يصنعه مخطط تنظيمي لدمشق الكبرى، سنتناوله في فقرات لاحقة.
يدفعني التطلَّع، إلى رؤيا لصورة «دمشق الكبرى» في كل تحولاتها، خلال ربع قرن (2045 – 2020)، إلى مثالٍ أستعيره مرة ثانية من حلب. إنه مثال تحليلي، إذ يقول فرع حلب، «للشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية»، وفق دراسته (الميدانية والإحصائية)، إن:
* 20% من مباني حلب، هي سليمـة كلياً ومسكونة، ولا وجوب لأي تدخل يعدّلْ أو يرمّم.
* 20% من مبانيها متصدّعة وتهدّد بوجودها سلامة أصحابها، والسلامة العامة، وهدمُها إلزامي.
* أما الـ 60 % المتبقية، فهي سليمة، ومسكونة، ومبعثرة في المدينة. والترميم المطلوبُ فيها، هو جزئي، ومحدود.
* سيحدّد صورة المكان إذاً، أي مدينة حلب اليوم، المباني السليمة، والمباني المرممة. ولا يغير الترميمُ صورةَ المدينةِ، أو يَسلُبها هُويتها وانتماءَها. وسيأتي الجديد بالضرورة، مكمّلاً الصورة القائمة، ومعززاً هوية المدينة، وانتماءها الحضاري والثقافي.
* سيَتعزَّزُ دور حلب بالتأكيد، في الدولة السورية، السيدة. إلا أن هذا الدور المعزَّز، في مدينة تاريخية، تراكمت فيها الحقبات خلال خمسين قرناً، سيُضيف إلى الصفحات المتراكمة، صفحات جديدة سيكتُبها، ومهما بلغت درجة الانزلاق الموجع راهناً، سيكتبها التاريخ، والانتماء، والهوية. وستبقى حلبُ، «حلباً». هل نرى في دمشق الكبرى راهناً؟ مثالاً شبيهاً بمثال شقيقتها ؟ حلب!؟

- 3- المخطط التنظيمي الشامل لـ «دمشق الكبرى» ورؤيا لصورة المدينة في عام 2045
موضوعنا الرئيس، هو إعادة إعمار الحواضر السورية (دمشق، حلب، حمص ... إلخ) بعد الحروب. مقولات كثيرة بُحثت، وأولويات حدّدت، وتدابير إدارية اقترحت، ومناهج لقراءة صورة المدن بعد إعادة إعمارها شُرِحَتْ، وأمثال من تجارب آخرين في إعادة الإعمار، استعيرت. ففي مقولات مثل، عدم توسيعِ رقعةِ الدمار، واعتماد الترميم كمنهجٍ رئيسٍ، وتجنُّب تحويل مشروع إعادة الإعمار إلى شركة عقارية، تهجّر وتتاجر، وتربح. استعرنا النماذج من تجربتنا في بيروت. تجربة الشركة العقارية الفاشلة «سوليدير». وفي مقولات مثل الحرب ليست فرصة لزرع الأحلام والأوهام، والحرب ليست فرصة لمعاقبة المخالفين، عندما سكنوا في ما تسمُّونه في سوريا المستوطنات «غير القانونية»، فقد استرجعنا موقفنا من رؤية المسؤولين في حلب، حيال جبل بدرو ومنطقة الحيدرية. أما في مقولة إلغاء مفهوم الضاحية، فإننا استلهمنا واقع لندن حيث لا وجود للضواحي، كما استلهمنا المداولات حول «باريس الكبرى» التي دفعت باريس كي تحذو حذو لندن. كما استلهمنا طموح بعضنا في لبنان، وحلمه ببيروت الكبرى، في عام 1978. ونعود إلى الاقتباس من توصيات «المكتب الباريسي للتنظيم المديني»، (Apur) ومن مصادر أخرى، في مقاربتنا لإعداد مخطط تنظيمي شامل لـ «دمشق الكبرى».

عربين – الدمار جزئي – ترميم (الصورة للباحث)

من هذا الاقتباس المتعدّد المصدر، نصوغ بعض التوجُّهات العامة، علَّها تساعد في إعداد المخطَّط التنظيمي الشامل لـ «دمشق الكبرى».
أول هذه التوجُّهات: المحافظة على صورة دمشق التاريخية، وعلى انتمائها، وهويتها. يعني هذا التوجه في مدينة تاريخيَّة مثل دمشق، الابتعاد عن التنظيم المديني العُظْمويّ المُكلِف، أي التنظيم الهوسماني، الذي اقترحه إيكوشار في الثلاثينات. وثاني هذه التوجهات، هو، المحافظة على الأوتوسترادات، والطرقات الرئيسة، والداخلية، والفرعية، والمحلية، وعلى الدروب، بكونها الحامل العنيد للذاكرة الجماعية. وثالث هذه التوجهات، حين تُستحدث طرقات جديدة، أو يصار إلى زيادةِ عرض بعض الطرقات الموجودة، مساهمةً في فتحِ أبوابِ دمشق على المستقبل، ثالث هذه التوجهات هو المحافظة على التفاصيل التي صنعت صورة دمشق عبر التاريخ، وحتى يومنا هذا. فلا نهدم مبنى تراثياً لنوسعّ شارعاً. ولا نزيل معلماً لنرسم مستديرة. ولا نخترق بستاناً، لنصل بين تجمُّعين سكّانيّين في «دمشق الكبرى».
ورابع هذه التوجهات، هو حماية المجالات العامة المفتوحة أي الساحات العامة الكبيرة، فهي مجالات لقاء ناس المدينة الكبرى. فيها تكتشف الجماعة المدينيّة حاجاتها وحقوقها. والمجالات العامة المفتوحة في الأحياء هي صغيرة بمساحتها، عفويةٌ في وجودها، غير واضحة الحدود. إنها تقاطع طرقات، والمتبقي من عقار مبنيّ. كل هذه المجالات العامة المفتوحة، هي مسامُّ دمشق الكبرى. فيها تتنفَّس الجماعة وفيها تعيش.
ومن المجالات العامة المفتوحة، الحدائق العامة. وهي كالساحات والتوسعات المفاجئة، تراتبية في أهميتها وفي دورها. فهي الحديقة الكبيرة المفتوحة، منتزهٌ، وحضورٌ جماليٌ، واختراقُ الطبيعةِ الخضراءِ للمدينة، ومجالاتٌ منظمة للعب الأطفال. هي مستجلب المطر، ومنقي الهواء الذي نتنفسه. باختصار هي رئة المدينة، تنقّي هواءَها وتحمي بيئتها. نذكر منها على سبيل المثال في سوريا وفي الوطن العربي، حرش الصنوبر ومنتزه الجابري في حلب، وحديقة الصنائع العثمانية في بيروت، ومنشية التل العثمانية أيضاً، في طرابلس الفيحاء. وهي في أمثلة من عواصم عالمية كبرى: السنترال بارك في نيويورك، وبارك غوركي في موسكو، والهايد بارك في لندن، وغابة بولونيا في باريس.
المحافظة على صورة دمشق التاريخية عبر الابتعاد عن التنظيم المديني العُظْمويّ


وخامس التوجُّهات العامة، في المخطَّط الشامل لدمشق الكبرى،هو بلورته لفكر تخطيطي وتنظيمي مديني يُصاغ، لتمتين وحدة الجماعة وتماسكها في المدينة الكبرى، وربما، لتشجيعها على الحلم الواحد، وعلى الأمل.
وعند إعادة الإعمار في المناطق المدمَّرة، بناءُ مجمَّعاتٍ مدينيةٍ كبيرة تتحلَّق حول العاصمة، وتفصلُ بينها مجالات خضراء، ووصل المجمعات المدينية هذه، بالمدينة التاريخية دمشق من جهة، ووصلُها بعضها بالبعضِ الآخر، بطرقٍ التفافيةٍ. وسادس التوجهات العامة في المخطط الشامل لدمشق الكبرى، هو أنه فكرٌ تخطيطيٌّ مدينيٌّ واحدٌ، لا مجموعة أجزاء تُجمَعُ في حزمةٍ واحـدةٍ، وتسمَّى «المخطط الشامل لدمشق الكبرى». التوجه الرئيس، في المخطط التنظيمي المديني لدمشق الكبرى، هو بالضرورة نقيض هذا المنحى. إنه فكر تخطيطيّ مديني شامل، يرى صورة المدينة الكبرى راهناً، والتحولات في المشاهد المدينية فيها، وصورة دمشق الكبرى في عام 2045.
مخططات تنظيمية تفصيلية تعدُّ بروح المخطط التنظيمي الشامل، وكجزءٍ من رؤيته لصورة المدينة الكلية لتحديد اتجاهات تمدَّد النسيج المبني، ليستوعب الزيادة السكانية المرتقبة خلال ربع قرن (2045). زيادةٌ ديموغرافيةٌ طبيعيَّة، أو زيادة طارئة تنتُجُ عن نزوح مفاجئ، ولتحْديد التدخل الموضعي في الجيوب المصابة، داخل المدينة التاريخية، ولكتابة تفصيلية للمناطق التي سيعاد إعمارها، ولكتابة ملائمة للمناطق التي يراد ترميمها.

* معمار لبناني