سنوات المنفى الطويلة كانت فترة أساسية في تجربة كمال بلاطة (1942 ـــــ 2019) الذي رحل أمس في برلين. خمسة عقود قضاها الفنان والمؤرّخ الفلسطيني بين فرنسا وإيطاليا وأميركا والمغرب وبيروت وألمانيا أتاحت له رؤية فلسطين التي لم يرها حين كان فيها. أخذته شفافيات البحار إلى يافا، ومن يافا أطلّ مجدداً على القدس. كان لنا في «دار النمر» في بيروت، أخيراً موعد استثنائي مع الفنان الذي لم تكن لوحاته وأبحاثه إلا تجاوزاً لما فرضه الاحتلال الإسرائيلي على فن بلاده: شرذمة التاريخ الفني الفلسطيني، وسرقة اللوحات من بيوت السكان، والقطيعة مع إرث المنطقة الحضاري الغني. تجاوز القيود الإسرائيلية على الفن، يعني بالضرورة، بالنسبة إلى بلاطة، تجاوز فلسطين كما اختصرتها ورسمتها لوحات فناني الثورة أو النضال الفلسطيني الذي كان يرسم نزولاً عند الطلب ومقابل بدل مادي، كما قال في ندوة «دار النمر». هكذا وثّق وأرّخ لفن بلاده في مؤلفات شاملة كتبها بالعربية والإنكليزية أبرزها «استحضار المكان: دراسات في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر» (2000)، و«شهود مخلصون: الأطفال الفلسطينيون يعيدون خلق عالمهم»، و«الفن الفلسطيني ــ من 1850 إلى الحاضر» (2009) الذي عاد فيه إلى ما قبل تاريخ النكبة، موثّقاً كافة محطات الفن التشكيلي الفلسطيني وتجاربه من الفن الأيقوني وصولاً إلى التجارب المعاصرة. لم تغب أسئلة الهوية والانتماء عن هذا المثقف الموسوعي، حتى إشكاليات الحفاظ على الأصالة في الفن العربي المعاصر، فكتب «الانتماء والعولمة: مقالات نقدية في الفن والثقافة المعاصرة» (2008). بلاطة الذي درس فن الأيقونات في محترف خليل الحلبي (1889ــــــ 1964) في القدس، عاد بعد سنوات طويلة لرؤية والتماس الجماليات الفنية المحليّة التي تسبق الوجود الإسرائيلي بقرون. ظلّت الرؤيا طريقته الوحيدة في اجتياز كل المنافي والحدود والحواجز. رحلته الطويلة في الفن، بدأت بعدها في إيطاليا، ثم في أميركا قبل أن ينتقل إلى بيروت لإدارة «دار الفتى العربي»، ثم إلى المغرب وإسبانيا حيث أجرى أبحاثاً ميدانية حول الفن الإسلامي. كما في حياته، تلقّفت لوحاته هذه الأسفار الطويلة، فعبرت أساليب وأنماطاً فنية مختلفة. ابتعد عن الفن التشخيصي، قبل أن تأخذه التأثيرات الغربية إلى الخط العربي والكوفي، وإيقاعات القصائد العربية، وفن التطريز الفلسطيني الذي أنجزه باستخدام الطباعة الحريرية والأكريليك والألوان المائية، وتحديداً شكل المربّع الذي ظلّ حاضراً في معظم لوحات الثمانينات. استسلمت لوحة بلاطة أخيراً إلى لغة تجريديّة اتسعت لسيل من الجمالية الغربية والشرقية، وعبر من خلالها إلى اكتشاف الفضاء والضوء والشفافيات المائية وتحوّلات الألوان في التراث الشرقي. دائماً وجد بلاطة في الرسم امتداداً للكتابة. هكذا واصل رحلته البصرية بين الأشكال الهندسية والخطوط، والألوان التي رأينا تجلياتها الأخيرة في مجموعته «بلقيس» التي شكّلت خلاصة تجربته الغنية، والمفتوحة على الشعر والفلسفة والرياضيات والأساطير والأديان.