تونس | شيّعت الأسرة الثقافية ظهر أمس الأحد في مدينة تونس مدير «أيام قرطاج السينمائية» المنتج السينمائي والتلفزيوني نجيب عياد (1953 ـ 2019) بعد نوبة قلبية مفاجئة. وكان الوسط التونسي قد أصيب بصدمة الجمعة الماضي لنبأ رحيل عياد، إذ أنّه لم يكن مجرّد منتج سينمائي، بل كان منتجاً ومنشطاً ثقافياً منحازاً إلى الثقافة التقدمية. كان من ألمع وجوه حركة نوادي السينما في أواخر الستينيات والسبعينيات الذي كان ملاذ المثقفين من الشباب التونسي الرافض للثقافة الرسمية للسلطة. تولى عياد رئاسة «اتحاد نوادي السينما»، كما تولى «مهرجان قليبية الدولي للسينمائيين الهواة» في مرحلة دقيقة من تاريخ تونس حين اشتدت الرقابة على الإعلام والثقافة في السبعينيات، بالتزامن مع تصادم النقابات مع رئيس حكومة الزعيم الحبيب بورقيبة آنذاك الهادي نويرة. مرحلة انتهت بالزج بالنقابيين في السجون، وكان «اتحاد نوادي السينما» و«الجامعة التّونسيّة للسّينمائيين الهواة» آنذاك في واجهة المعركة الثقافية، مع نظام «المجاهد الأكبر» كما كان يسمّى في تونس. وفي الثمانينيات، لعب نجيب عياد دوراً بارزاً في الانتعاشة التي شهدتها السينما التونسية التي ذاع صيتها مع أفلام النوري بوزيد والمنصف ذويب وغيرهما. وقد كان وراءها المنتج الراحل أحمد بهاء الدين عياد رفيق درب نجيب عياد، وكان وقتها الأخير في «الشركة الوطنية للإنتاج والتنمية السينمائية» التي انخرطت في دعم مشاريع الإنتاج الخاصة قبل حلّها في التسعينيات. بدءاً من عام 1998، انخرط نجيب عياد في تجربة الإنتاج السينمائي، عبر العديد من الأفلام القصيرة والطويلة من بينها: «بوتليس» لنصرالدين السهيلي، و«صباط العيد» لأنيس لسود، «مملكة النمل» لشوقي الماجري، و«أوديسة» لإبراهبم باباي وغيرها، كما أنتج للتلفزة مجموعة من أشهر المسلسلات التونسية مثل «صيد الريم» و«ناعورة الهواء» و«وداعاً كاترين» وغير ذلك. ترك نجيب عياد بصمات واضحة في الحركة السينمائية. فقد أسس في التسعينيات مع رفيق دربه حسن عليلش «المهرجان الدولي لفيلم الطفولة والشباب» في مدينة سوسة، وتولّى إدارته لسنوات. كما ترأس منذ ثلاث سنوات «أيام قرطاج السينمائية»، أحد أعرق مهرجانات سينما الجنوب. وقد أعاد عياد المهرجان إلى طابعه الأصلي كمنصة لسينما التحرر الاجتماعي والسياسي ومقاومة الاستبداد والقمع وانتهاك الحقوق الاقتصادية والسياسية للشعوب والمواطنين أيضاً. لم يكن نجيب عياد مجرّد منتج سينمائي أو تلفزيوني يبحث عن الربح السهل، بل كان منتجاً ثقافياً منحازاً للمبدعين ومنخرطاً في كلّ القضايا المتعلقة بالحريات والديمقراطية والتعددية منذ أن كان طالباً مطلع السبعينيات في الجامعة التونسية التي شهدت أوج المصادمات مع الحكومة. وكان عياد في طليعة الحركة اليسارية والتقدمية التي قادت النضال ضد حكم الحزب الواحد والرئاسة مدى الحياة والثقافة الرسمية. ورغم أنه لم ينخرط في أيّ تيار يساري من التيارات المهيمنة آنذاك على المشهد السياسي والطلابي والنقابي، إلا أنّه كان فاعلاً في اليسار الثقافي الذي كان يقود الحركة السينمائية من خلال منظمتَي «حركة نوادي السينما» و«الجامعة التّونسيّة للسّينمائيين الهواة». وقد حافظ عياد على استقلاليته عن السلطة السياسية في ظلّ تعاقب الحكومات، وعُرف بقدرته على التفاوض مع السلطة لحماية نوادي السينما التي كانت مستهدفة من السلطة في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. إذ كانت تُعتبر «وكراً» للشباب اليساري المناوئ للسلطة. وقد كان الناشطون في نوادي السينما إلى حدود «14 جانفي» 2011 مستهدفين من السلطة، لكن نجيب عياد كان في واجهة المدافعين عن الشبان السينمائيين والمنتمين لحركتي «نوادي السينما» و«السينمائيين الهواة». وهو ما يجعل من رحيله بمثابة رحيل «أب» حركة نوادي السينما بعد انطفاء جيل المؤسّسين، بعدما كان عياد أصغر المؤسسين آنذاك.
رحيل نجيب عياد إعلان عن نهاية المرحلة المضيئة في السينما التونسية؛ فهو خلافاً لجيل المؤسسين، اتخذ مواقف سياسية ونقابية وانحاز لقضايا الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان. برحيله، تخسر السينما التونسية منتجاً مغامراً وفاعلاً ثقافياً بارزاً يصعب تعويضه. بعد أحمد بهاء الدين عطية رفيق دربه، يرحل نجيب عياد بعدما صنعا معاً مجد السينما التونسية في الثمانينيات واقتحما مغامرة الإنتاج السينمائي الخاص الذي كانت تحتكره الدولة بشكل كامل. وداعاً «سي نجيب» كما يناديك الممثلون والتقنيون والصحافيون.