«وأبي قال مرّة:
الذي ما له وطن
ماله في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر!»
محمود درويش


هناك مبدعون يروون الكارثة، وآخرون يحترقون فيها. جنان مكّي باشو، على الأرجح، من الصنف الثاني. لقد تركت بعضاً منها في كل مرحلة من مراحل مسيرتها الفنية، حتى لم يبقَ إلا الألم ـــ ألم الجسد وألم الروح. إنّها «تبيعنا» ذلك الألم الرابض، أو المحبوس في كل قطعة من الأعمال التي أمامنا، وفي كل تلك الحضارة التي سبقتها، أياً كان حجمها، مرحلتها، أو المادة التي صنعت منها. أعمال تتكرر، وتنتظم ضمن مجموعات متسلسلة، لتشكل محطات متلاحقة من الملحمة العظيمة نفسها. آليات معدنية وسفن، برابرة ومقاومون، قطعان ورعاة، جلادون وضحايا، معارك ومذابح، مدافع رشاشة وسواطير. وبشر تائهون… تغريبة العرب والمسلمين في الأزمنة ما بعد الحديثة.
تزامنت تجارب جنان باشو غالباً مع مفترقات حاسمة في تاريخنا الراهن، الصاخب والدامي، الذي تعصف رياحه بلبنان والمنطقة. لقد صنعت معظم أعمالها من هلام معدني لملمته وقولبته وأعادت توظيفه. بدأ كل شيء مع قذائف العدو الإسرائيلي في اجتياح 1982، إذ راحت تنحت بها «أرزاً» هو رمز العزّة الوطنيّة. واعتادت ارتياد مقابر السيارات ومحلات الخردة لتغرف منها العناصر التي ستروي بها «الأبوكاليبس» العربي. نقول عادة «تراجيديا إغريقية» لنشير إلى يد القدر الأعمى التي تنهال على الأفراد والأمم والشعوب. لكن جنان، معرضاً بعد آخر، تقترح علينا أن نسمّيها «التراجيديا العربية». تراجيديا بلا قرار، تحاول كتابتها كل مرّة بعناصر جديدة.
بعد «الربيع العربي» المجهض الذي أخرج مسوخ الظلام من علبة باندورا، ولفّ الأوطان بالدم والحديد والنار، وشرّع أمام شعوب المنطقة أبواب جهنّم، اشتغلت الفنانة كما نعرف على تجسيد جحافل التتار، والآليات وسفن الهاربين في البحر، والأقفاص والذبح الطقوسي، فكان معرضها «حضارة» عام 2016، في «غاليري صالح بركات» في بيروت. بدا لنا المعرض يومذاك أشبه بلوحة ملحميّة مزدحمة، بالأبعاد الثلاثة، تذكّر بعالم جيروم بوش. رأيناها تجذّف مع شعوب مشرّدة رمتها لعبة الأمم في عرض البحر، على متن زوارق تائهة، متروكة لمصيرها في خضمّ المجهول. وبدت السينوغرافيا جزءاً حيويّاً في هذه الرؤيا الملحميّة التي بدأت قبل المعرض، وتستمر بعده. فنحن أمام ورشة متواصلة، لبناء «تجهيز» ضخم، مفتوح وقيد التشكّل الدائم، ترتبط عناصره في رؤيا واحدة، وعرض واحد، و«عمل» واحد.
لذا فإن معرضاً لا يكفي للتطهّر من «غواية الفظاعة»، كما سميناها. عرضت الفنانة أعمال الـ 2016، في أماكن مختلفة ـــ وهناك دول خافت من مجسماتها، فصادرتها في المطارات ـــ ثم عادت إلى محترفها لتواصل سرد حكايتها. وحملت أجزاء منها لتقدمها في «متحف بروكلين». «يوم الحشر» يتواصل اليوم في «غاليري أجيال»، مع قوافل النازحين، الهاربين من قدرهم، بما تيسّر من متاع وصرر وفساتين وجزادين، وأطفال وتيه… ولوعة مكبوتة. إن مجسمات ومنحوتات «مواسم الهجرة اللامتناهية»، معرضها الجديد الذي هو امتداد لسابقه حكماً، مخصصة لهم: جحافل من الكائنات الهاربة من الجحيم، المتجمّدة إلى الأبد كما أعمدة الملح، لا قبلها ولا بعدها.
على طريقتها، تعيد جنان باشو صياغة ملحمة التهجير واللجوء. تجسّد شعباً، بل شعوباً، في ترحالها القسري. هذه المرّة صنعتهم فرداً فرداً من المعدن، نحتت مسارهم، التقطت حركة أطرافهم، ثم جمعتهم على مسرحها الملحمي، أبطالاً لتراجيديا خرساء تستعصي على الكتابة. كما شكّلت مجموعات صغيرة من اللاجئين، صبّتهم في لوحات برونزية، أو نحتتهم على الخشب. شكلت أجسادهم المائلة ولوّنتها بتقشّف شديد، ووضعت في أيديهم حقائب. «الحقيبة» - الوطن تبدو طالعة من قصيدة شهيرة لمحمود درويش: «آه يا جرحي المكابر/ وطني ليس حقيبة/ وأنا لست مسافر…». إذا كان الرحيل هو موت معلن، فإنّه هنا لا يحمل أملاً بولادة جديدة… كائنات تبحر بلا وجهة، لا نسمع صخبها، لا نرى وجوهها وعيونها، لكن من الواضح أنّها ترنو إلى اللامكان. فيما قطعان الأغنام البرونزية ورعاتها، تعزز البعد الأسطوري للرؤيا، وترمز إلى باقي العرب المستكينين للكارثة. لعبة المتوازيات بين القوافل الهاربة والقطعان الصاغرة، تطرح سؤالاً مكتوماً: هل أننا نحن العرب، مخيّرون اليوم بين أن نكون أغناماً راضخة في القطيع، أو بشراً مقتلعين مرميين على قارعة العالم؟
إلى جانب البرونز والحديد عادت الفنانة إذاً إلى الخشب، الذي يضفي على هذا المعرض طابعاً خاصاً. القسوة المعدنية الداكنة، تترك مكانها هنا لشيء من الإلفة، والليونة، والدينامية، والإشراق. من الألواح الخشبيّة (35x65 سنتم) أخرجت شخوصها التائهين، وحفرت في الخلفيّة، وفي الجزء الأسفل، أخاديد وندوباً قد تكون أديم الأرض، تماوجات ونتوءات وَطِئَتها أقدامهم عبر صحارى ووديان وجبال. لكن تلك التماوجات توحي أحياناً بصفحة الأنهار والمستنقعات والبحار. لمَ لا نتخيّل تلك المجموعات البشرية التائهة، الماضية في هجرتها، وهي تمشي على الماء؟ إنّها «الرؤيا التوراتية» مقلوبة: exodus شعب الله الملعون! ضربات اللون القليلة على الشخوص، تترك الخشب غالباً على طبيعته الخام، عارياً، بدائيّاً، وإذا بالمجسمات قريبة من العين والملمس. المآسي العظيمة من الأنسب روايتها بأقل عدد ممكن من الكلمات والحركات والنقشات، وضربات القلم أو الريشة أو الأزميل.
تروي جنان الحكاية بشكل متواصل. تكرر الشخصيات والحالات والشخوص والديكورات والاكسسوارات حدّ الهوس. كأنّها بهذا التكرار المضني، والاستعادة «الهستيريّة»، تحاول أن توقف لعنة التاريخ، أو على الأقل أن تتمرّد عليها، أن تنتقم منها، أن تكشفها للأجيال المقبلة، أن تقولها حتى نهاية الصوت، ونفاد الحَيْل… تحاول تأريخ الخراب، بل ترجمة الخراب. تلملم شظايا الروح هي التي سبق أن عملت على الشظايا، لتحكي عن هجرة بلا قرار. في لبنان الذي اكتوى بنيران الجحيم السوري، لبنان المتوتّر، المتروك لكل أشكال الخوف وانحسار العقل، والعنصريّة ورهاب الغريب وانحطاط السياسة، يكتسب معرض «فصول الهجرة اللامتناهية» بعداً إضافيّاً. وترجّع أنحاء غاليري «أجيال» أصداء السؤال الأبدي الذي طرحه المفكّرون والمبدعون عند كل محطات التاريخ المؤلمة: هل هناك حياة بعد الكارثة؟ هل الهروب ممكن من هذا الخراب العظيم؟
هناك مبدعون يروون الكارثة، وآخرون يحترقون فيها. جنان مكّي باشو، من الصنف الثاني. لقد احترقت في الأتون العربي. ما ترونه هنا، سيداتي سادتي، ليس إلا صراخها المكتوم، وبؤسنا الأعمى، وحطام إنسانيّتنا.

(*) كتب النص لكاتالوغ المعرض