البندقية | في اليوم الثاني من«مهرجان البندقية»، كنا على موعد في المسابقة الرسمية مع فيلمين أميركيين لا يتشابهان إطلاقاً. الأول هوليوودي بامتياز من إخراج جيمس غراي، كان منتظراً جداً، بخاصة بسبب البطل الرئيسي براد بيت. الثاني يجمع آدام درايفر وسكارلت جوهانسون، من إخراج أحد أهم وجوه سينما المؤلف في أميركا نواه بومباك بفيلم من إنتاج «نتفليكس». الأول خيال علمي عن الفضاء سيئ جداً، والثاني ممتاز وواقعي إلى أبعد حدود.
«نحو النجوم» لجيمس غراي
من الغريب اختيار جيمس غراي «نحو النجوم» (من العبارة اللاتينية الشهيرة Per aspera ad astra) كعنوان لفيلمه الأول من نوع الخيال العلمي. لم يأخذنا الفيلم نحو النجوم، بالأحرى لم يأخذنا إلى أيّ مكان. وراء ميزانية الفيلم الضخمة، ومركبات الفضاء، والكواكب، والنجوم، والشخصيات الثانوية التي ليس لها أيّ دور؛ يدور الفيلم حول إحدى أقدم القصص التي عرفتها البشرية: علاقة الأب والابن.
ليس للفيلم تاريخ محدّد، فلنقل إنّ أحداثه تجري في المستقبل القريب. رائد الفضاء روي مكبرايد (براد بيت) هو من الأشخاص الانطوائيين، تجنّده حكومة الولايات المتحدة (لأسباب غبية) لمهمة خطيرة: السفر إلى كوكب نبتون، موقع مشروع «ليما»، لمعرفة إن كان المشروع مرتبطاً بإرسال كمية هائلة من الطاقة التي تنفجر باتجاه الأرض وتهدّد النظام الشمسي. كان كليفورد مكبرايد (تومي لي جونز)، والد روي ورائد الفضاء الأفضل، يدير المشروع. لكن بعد مضي ١٦ عاماً، اختفت السفينة واختفى من عليها. والآن سيذهب روي في المهمة نفسها لإنقاذ الكوكب ومواجهة «الدادي إشوز».
يدور «نحو النجوم» حول الاستكشاف، الهوس، الشعور بالوحدة، وتفكّك العلاقات الإنسانية


يعود غراي إلى الفكرة الغالبة على أفلامه: مهما فعلنا، لا يمكننا الهرب من ماضينا. يقدم مرة أخرى موضوع الآباء والبنين. آباء مصابون بجنون العظمة يقودون أطفالهم إلى زنزانات أحلامهم القاتلة. ولأنه من الأسهل إلقاء اللوم على الماضي بدلاً من التحلي بالشجاعة للتركيز على مشاكل اليوم، وإلقاء اللوم على التقدم العلمي بدلاً من تحديد أخطاء استخدامه، والتركيز على سرد مشاكل الأبوة بدلاً من إنشاء شخصيات معقدة، ولأن تقديم فيلم خيال علمي يعد مربحاً أكثر من تقديم رؤية واضحة لنصّ كاد أن يكون جيداً، اختار غراي هذا الطريق الذي سار عليه كثيرون وفشلوا سينمائياً («انترستلر»، «ارايفل» و«فرست مان»). هكذا أضاع المخرج ساعتين من الزمن في أوبرا مرئية لم تضف شيئاً إلى السينما (الموسيقى كانت جيدة). الفيلم غير مبهر بصرياً، رأينا الكثير منه قبلاً، لكن مشاهده جميلة. يمكن أن يكون الحديث العلمي ذا مصداقية (لا أعلم). القصة متهورة، فوضوية، غير متطورة، مضللة وأحياناً سخيفة، تُركت فيها الأشياء طائفة على السطح. بدا التمثيل فوضوياً على الرغم من أن براد بيت قادر على التعامل مع تعقيد شخصيته، ولكنه يقدم في الفيلم أداء مباشراً من دون جهد.
يدور «نحو النجوم» حول الاستكشاف، الهوس، الشعور بالوحدة، وتفكك العلاقات الإنسانية، وبالتأكيد العلاقة الضيقة للغاية بين الأب والابن. يقدم جزءاً صغيراً من كل شيء في فيلم طموح ولكن محدود، يفتقر إلى التوليفة النهائية التي تجمع وتشمل كل ما رأيناه واختبرناه.

«قصة زواج» لنواه بومباك
بلا مبالغة؛ كان للفيلم تأثيره الكبير على الجميع بلا استثناء. ما زلنا في بداية المهرجان، إلا أن اسم الفيلم سوف يسمع في الحفل الختامي ونحن في الانتظار. هناك أفلام تدخل مباشرة إلى القلب مع النظرة الأولى، تكون قادرة على إشراكنا عاطفياً في السرد، إلى درجة أن الشخصيات على الشاشة تندمج تماماً مع حياتنا. «قصة زواج» لنواه بومباك هو واحد من هذه الأفلام.
بداية الفيلم لا تُنسى: تشارلي (آدام درايفر) ونيكول (سكارلت جوهانسون) يصفان مزايا كل منهما، بينما تُظهر لنا الشاشة لحظات من حياتهما معاً: الحب، الجنس، الضحك، الطبخ، اتخاذ القرارات، المجادلات الهادئة منها والحادة، اللعب مع ابنهما هنري وكل ما يجعل صورة العائلة جميلاً. هو مخرج مسرحي وهي ممثلة. وهما الآن على وشك الطلاق.
«قصة زواج» هو تحليل دقيق لعلاقة تتفكك. هو الخيط الرفيع بين الحب والكراهية. الحاجز بين المراهقة الأبدية والمسؤوليات الأسرية. البسمة التي تظهر لتفادي تحوّل الغضب إلى نكسة. هو نهاية عالم صغير رُويت بحنان. هو الحلاوة في عالم ينهار. القفزة المفاجئة لتفادي سقوط المزهرية. الإيماءات التي تقول عن الحب أكثر من الكلمات المنطوقة. الميلودراما التي تتحول إلى كوميديا. الانفصال الودي الذي يتحول إلى عملية طلاق معقدة. هو الخوف من فقدان الابن. هو الإيماءات والكلمات والصور. الشعور أن نكون أباً وأماً. الانفصال الذي يدمّر اللحظات السعيدة. الخوف والاتهامات وبحر الآلام. هو التفاصيل الدقيقة. هو الاعتراف. هذا الشيء الغامض الذي نسمّيه حبّاً. الكائن المظلم الذي نسميه زواجاً. هو أن نكون على قيد الحياة. سينما نواه بومباك هندسية مسرحية، كاميرته تصور الأساسيات. عمله الجديد هو الأهم والأفضل، بيد راسخة حافظ على أسلوب نابض، قدّم حوارات ملحّة بكاميرا تضغط على وجوه شخصياته وتكاد تسحقهم. التقط الدموع، الابتسامات، الغضب الذي يُطبع دوائر على الحيطان، وصوّر سلوكيات تتجاوز الخطوط المستقيمة. الفيلم يتحدث عن شخصين محددين، يتحدثان كثيراً عن حقائق عالمية تسهل رؤيتها، كأنها مرآة حيث ترى نفسك في مناقشات صغيرة تنتهي بصراخ، ترى نفسك في نفور، وتسمع نصيحة جيدة من غرباء وتتفاجأ بالكوميديا الموجودة فيها برغم كآبة الموضوع.
«قصة زواج» هو بالتأكيد فيلم ناجح من جميع النواحي: الأداء العظيم والأفضل للممثلين، البداية والغناء والنهاية، وقبل أي شيء الواقعية والنضارة التي تثبت قدرة وموهبة المؤلف والمخرج (بومباك بالتأكيد). يمكن للسينما العودة إلى الموضوعات والقصص المحطمة والمبتذلة والمعادة كثيراً، ولكن من دون أن تفتقر إلى الأصالة. يقدم الفيلم الحياة البسيطة والمعقدة بأفراحها وأحزانها، التي تستحق العودة إلى الشاشة الكبيرة طالما لدينا الرغبة بأن نغرق ونفقد أنفسنا فيها.