مثل أسراب الجراد. الجراد الذي لا يبقي ولا يذر. جاؤوا والتهموا كل شيء. هل هي صدفة أن يكون الأصفر هو اللون الغالب على شعارهم وراياتهم؟ لماذا اختاروا هذا اللون؟ خارطة العراق في شعارهم كتلة خضراء وكل ما يحيط بها أصفر. قالوا إنهم سيحوّلون العراق إلى جنة تجري من تحتها أنهار، تضاف إلى الأنهار التي تجري فوقه. لكنهم ابتلعوا ما فوق الأرض وما تحتها. وسيتركون العراق كله أصفر، و الناس صفر اليدين، يهيمون في الصحراء، باستثناء مناطقهم الخضراء وواحاتهم المحمية بالكونكريت. عراق أصفر يعميه الجراد الأخضر. لعله أخضر لأنه يلتهم كل ما هو بلونه؟ في الفيلم الوثائقي الذي كان يشاهده يشبع الجراد ثم يمضي إلى مكان آخر. هل يشبع هؤلاء؟ هل يأكلون لكي يشبعوا، أم أنّهم يأكلون لأنهم ينتقمون؟ شعارهم «وطن سنبنيه بحب الله والإنسان» كان من الأفضل أن يكون «وطن سنسبيه باسم الله». وبّخ نفسه لأنه يشبّههم بالحيوانات. لا يريد أن يكون مثلهم. هم. هم. ونحن. المفردات ثابتة لكن معانيها متحوّلة. المعاني التي تسكن في الكلمات تتغيّر. فالمعاني، هي الأخرى، تُجْبَر، بين حين وآخر، على أن تلملم ما تيسّر مما تملكه وتهاجر، مثل البشر. فتبحث عن أمكنة جديدة تسمح لها أن تستقر. وتضيق بها. فتسكن محلها معان جديدة. هكذا نصبحهم ويصبحوننا ويصبحونهم ونصبحنا. ألم يُهجّروا هم أيضاً في يوم أسود من ديارهم؟ ولكن لماذا تتمثّل الضحية جلادها في أغلب الأحيان وتتحول إلى جلاد جديد؟ عاد يفكّر بالجراد ولماذا سمّي كذلك؟ «جراد». ربّما لأنه يجرّد الأرض من الزرع؟ لو كان في بيته لقام إلى مكتبته وتصفّح «لسان العرب» بحثاً عن تاريخ المفردة ومعانيها. يمكن أن يتصل بابنه ويسأله. قال له قبل أسابيع إن «لسان العرب» موجود بأكمله على الانترنت. لكنه ليس من رواد الانترنت. وهو ليس في بيته ولن يعود إليه. ترى أين كتبه الآن؟ هل بيعت بالجملة وسعّرت على الوزن، لا على المحتوى أو الجنس؟ أم أن أحد نجوم العهد الجديد هؤلاء يضعها الآن في بيته كديكور و«خلفيّة» لتضفي على جهله شرعيّة مزيّفة، خلفيّة ثقافية. وتذكّر زميله فاروق الذي كان يشير إلى الممرضة ذات العجيزة الكبيرة بأن «خلفيتها ثقافية». وماذا سيفعلون أساساً بكتب الطب والعلوم وهي بالإنكليزية التي يجهلونها؟ قد يعرفون الفارسية التي أتقنوها في طهران. حتى أولئك الذين عادوا من لندن بعد أن سكنوها لعقود لم يتقنوا الإنكليزية، لا بل لم يتعلموها هناك وظلوا متقوقعين في عوالمهم الضيقة. لم يتعلّموا أي شيء. لم يقرأوا كتاباً. شهاداتهم مزوّرة. والأطباء بينهم لم يمارسوا الطب. يشاهدهم أحياناً في بعض المقابلات التلفزيونية يجلسون في مكاتبهم وخلفهم سلاسل من الكتب عناوينها مكتوبة بألوان براقة. مصفوفة بعناية فائقة على الرفوف بطريقة تدل على أن لا أحد يقرأها. تهمهم الأغلفة. إنه زمن الأغلفة البراقة. زمن القشور والنفايات. زمن الزبالة. سكنوا قصور الذين كانوا قبلهم. لكنهم ابتلعوا، وبسرعة، كل ما حولها من بيوت ومساحات. وابتلعوها، بوتيرة وسرعة تفوق أولئك الذين كانوا قبلهم. ترهقه المفاضلة بين اللصوص القدامى والجدد. هل سيأتي من يكتب يوماً كتاباً بعنوان «جرائم الوزراء ومظالم الفقراء»). هو لم يكن فقيراً بالطبع ولكن أعجبه العنوان. ربما مظالم الشرفاء.
الذين كانوا قبلهم لم يخرجوه من بيته. لكنهم أخرجوا آخرين غيره. كانوا يحبّون البيوت التي تطلّ على النهر. لا يلومهم على ذلك. هو أيضاً كان يحب النهر وكان يحلم أن يسكن ذات يوم في بيتٍ يطل عليه. لكن أسعار البيوت المطلة على النهر أصبحت «جهنم» وكان «الحبربشية» هم الذين يشترونها. النهر أيضاً أصبح، شيئاً فشيئاً، لهم هم وحدهم. بدواع أمنيّة. لكنه بنى بيته ودفع تكاليفه من عرق جبينه. لم يسكن بيتاً هرب أصحابه. ولم يجبر أحداً على الهروب. تذكّر لوحة الإعلانات الخاصّة بنادي الزوارق الذي كان في طور التأسيس في نهايات الثمانينيّات. كان أعضاؤه يستخدمون مرافق نادي العلوية، مؤقتاً، بانتظار إكمال تشييد بناية النادي الذي كان رئيسه برزان التكريتي. كانت اللوحة صغيرة نسبياً إلى جهة اليمين في الباحة الرئيسية. كان عضواً في نادي العلوية ويذهب في الصباح الباكر للسباحة في الصيف. يدفعه فضوله لأن يقف أمام لوحة إعلانات نادي الزوارق أحياناً وهو يخرج من النادي. إعلانات عن اجتماعات الهيئة الإدارية وعن زوارق مستوردة طبعاً وبأسعار خاصة للأعضاء، الذين سمع أن معظمهم من السفراء وكبار المسؤولين المتنفذين.
كان قد شاهد على إحدى المحطات العراقية قبل أسابيع خبراً عن مهرجان للأطفال في نادي العلوية. وصدمه منظر النادي وما آل إليه، بدا أنه كان قد فقد ما تبقى من أناقته ورونقه. أعضاؤه الجدد من حديثي النعمة. الرثاثة في كلامهم وملبسهم.
■ ■ ■

جلس في الطارمة بعد أن انتهى من سقي الشبّوي و«حلك» السبع وربط نهاية الأنبوبة البلاستيكية بفم الرشّاش ووضعه في منتصف مستطيل الثيَّل. تعجّب أن الرشّاش ما زال يعمل بعد كل تلك السنين ويوزّع الماء وكأنه نافورة صغيرة ترقص ذات اليمين والشمال. زوجته كانت في المطبخ تعد صينيّة الشاي والعصرونية التي طلبها منها: قطع خبز محمّص وجبنة ومربى التين. وقفت سيارة أمام باب البيت الخارجي وسمع صوت أبواب تفتح وتطبق ونزل منها رجل. كان بإمكانه أن يرى قمة رأسه وهو يقف أمام الباب الخارجي ويضغط على الجرس. ثم سمع رنينه قادماً من الداخل عبر الشباك المفتوح. قام عن كرسيه ومشى إلى الباب واستعلم عن الطارق عندما أصبح على بعد خطوات قبل أن يفتحه.
«خير؟ تفضّل».
فتح الباب. مد الرجل يده ليصافحه. شاب في منتصف الثلاثينيات من عمره. نظارات شمسية. لحية خفيفة وشارب. قميص أبيض مزرّر بدون ربطة عنق وبدلة رمادية. خاتم بفص أخضر كبير في يمناه. كان يمسك بهاتف محمول بيده اليسرى.
«دكتور. سمعنا البيت معروض للبيع؟»
«بيتي آني؟ ماكو هيچ حچي. منين سمعت؟»
«واحد من الشباب بالحراسة سامع حچي بالمنطقة».
«لا. متوهمين. مو للبيع».
«آسفين عالإزعاج دكتور. بس إذا غيرت رأيك گوللنا».
كان برفقته واحد آخر ظل جالساً في السيارة. ركب بجانبه. حين سألته زوجته عن الطارق أخبرها عن السبب فقطبت حاجبيها وهي تضع الصينيّة على الطاولة أمام المرجوحة. «منو مطلّع هالإشاعة؟» «يجوز مخربطين بالتفاصيل وأكو غير ناس بالمنطقة يردون يبيعون». انتقل الحديث بعدها إلى أمور أخرى. لكن خامره شعور أن الموضوع ليس خطأ وإنما جسّ نبض. وتعزّز هذا الشعور في الأشهر اللاحقة.
وقفتْ بعدها سيارات أخرى أمام البيت وفي مناسبات مختلفة وكان وقوفها سبباً أو حافزاً لإشعارهم، بالتدريج، بأن المكان لم يعد مكانهم وبأن الإصرار على البقاء فيه سيكون مكلفاً. في محاولة لاستعادة إيقاع الحياة الطبيعية دعا عائلة أخيه وأقرباء زوجته إلى عشاء بعد أسابيع من احتلال المدينة. ولم يسمح الواقفون في نقطة الحراسة في بداية الشارع لهم بالمرور. فاتّصلوا به وذهب هو إلى النقطة بنفسه ليؤكّد لهم أنّهم أقرباؤه. طلبوا منهم أن يتركوا هوياتهم هناك. جاء أحدهم ورنّ الجرس وكان مسلحاً. «السيارات هذنّي وخروهن من الشارع؟» ثم جاء يوم أوقفوا فيه شاحنة أمام باب البيت الخارجي لكي تمنعهم من الخروج من البيت. ولم تنجح اتّصالاته ومحاولاته في الوصول إلى الشخص المسؤول. ولم تتحرك الشاحنة إلا في الليل. قال لزوجته «ما يكفي الأمريكان احتلوا البلد، النّوب هذولة احتلّوا المنطقة». بعدها بدأت مكالمات ورسائل نصيّة تقول «اطلع أحسنلك».
■ ■ ■

حاول ابن أخيه أن يتصل به خمس مرات لكن هاتفه المحمول كان بعيداً عن أصابعه التي كانت مشغولة بتحسس ثمار الطماطم. تتخير أفضلها للسلطة التي كانت زوجته ستعدّها لهما ظهراً. أضاف اثنتين وضعهما في الكيس وأعطاه لأبي علي الذي كان «معميله» منذ أكثر من ثلاثة عقود. أخذ وقته في انتقاء الخيار والبصل. سأل أبي علي: «شگد حسابنا» فأجاب كعادته «خليها عليّه دكتور». رد عليه بابتسامة و«تسلم».
ظل الهاتف الأسود ينتفض ويرتجف كأنّه حيوان يلدغ يحاول أن يقفز بحثاً عن يد صاحبه في المنخفض الجلدي المدوّر بين الكرسيين. تراكمت محاولات اتصال أخرى وهو يمشي ببطء إلى السيارة التي أوقفها في شارع جانبي. سمع أزيز الهاتف وهو يفتح باب السيارة الخلفي ليضع أكياس المسْواق على المقعد الخلفي. لم يلتقط الهاتف إلا بعد أن جلس في كرسي السائق. «شگد بارد» كانت زوجته تقول له أحياناً لأنه يتمهّل في الإجابة والاستجابة لكثير من الأمور. وأدرك، من سيل المكالمات، أن هناك مشكلة. اتصل بابن أخيه لكنه لم يرد. اتصلت به زوجته تبكي وكلماتها مبللة بالدموع والشهقات «صائب» «شبيه؟» «ضربوه» «وين؟» «يم بيتهم» «منو؟» «ما يدرون». ساق بسرعة جنونية إلى بيت أخيه في حي الجامعة.
سيمحو المرض كل هذه التفاصيل بعد سنوات قليلة، لكن مشهداً واحداً سيظل يقاوم المحو. سيارة أخيه البيضاء. باب السائق مفتوح. على الأرض، على بعد متر ونصف منه شرشف أبيض كان قد جاء به رجل بيته بالقرب من مكان الجريمة، يغطي رأس ووسط أخيه. لكنه يترك ساقيه. تركوا جثته كما هي بانتظار الشرطة التي تأخرّت. أكبر أبناء أخيه يجلس على الأرض وينتحب. وجهه وملابسه ملطخة بالدم لأنه حاول أن يتأكد من موت أبيه وعانقه مرة أخيرة قبل أن يقتنع بلاجدوى إيقاظه من نومه الطويل. حين رفع الشرشف ظهرت البركة الحمراء كاملة ومركزها رأس أخيه. كان جاثماً وخده الأيسر على الأرض كأنه ينصت إلى كلمات أخيرة قد تقولها له. الأرض التي كانت طبقاتها وذبذباتها اختصاصه والمادة التي درّسها لأجيال في جامعة بغداد لعقود. لكن كل علوم الأرض لن تفسّر لماذا يتفانى كثير من الذين يمشون ويعيشون عليها في محق بعضهم البعض. الأرض التي لا راحة كاملة إلا تحت ترابها. «راح وارتاح من هالعيشة الگشرة» قالها أحد زملائه حين جاء ليعزّي بموته.
مات بكامل أناقته التي ظل مواظباً ومحافظاً عليها، حتى في تلك الأيام التي لم يكن يلقي محاضراته فيها. بدلة وربطة عنق وحذاء مصبوغ بعناية يلمع. لكن الموت لطّخ حذاءه بمزيج من التراب والدم. كان المنظر سيزعجه ويجعله يتأفف لو كان حياً. كان سيقول «أهووو». رد فعله التقليدي المفضل.
سُجّلت الجريمة ضد مجهول. وانضم اسم أخيه إلى قائمة أسماء ستطول من الأكاديميين والأساتذة الذين قتلوا بعد الغزو. كانت التهمة غير الرسمية هي أنّه «بعثي». ازدادت مطاطية هذه المفردة وما يمكن أن تعنيه، أو ألّا تعنيه، بشكل مطرد بعد ٢٠٠٣. وأصبحت دمغة، يكفي أن يضعها أي شخص على اسم ما أو أن يلحقها به، ليتم إدخاله، بلمح البصر، إلى قفص الاتّهام. فيجلس لينتظر عقابه الذي قد يأتي في أي لحظة. أما صائب فقد جاءه وهو يقود سيارته في طريق العودة إلى بيته.
وهو أيضاً سيتّهمونه بأنه بعثي وكأنّه أشرف على مذابح وإعدامات، أو وقّع قرارات مصيرية. وسيتم اختزال العقود التي أمضاها يعمل من أجل البلد الذي كان يظنّه وطناً. تذكّر مقولة صدام حسين «كل العاملين الجيدين هم أبناء الثورة، وهم بعثيون، وإن لم ينتموا». وبدا له أن الحكام الجدد كانوا قد أسقطوا «هم أبناء الثورة» وأخذوا يعملون وفق ما قاله عدوّهم وسلفُهُم «كل العاملين الجيدين هم بعثيون وإن لم ينتموا».
الوطن قوة طاردة!

* فصل من رواية قيد الانجاز.

** روائي وشاعر عراقي يقدّم ندوة بعنوان «سيرة الماء: ذاكرة النص» (8/10 ــــ س: 18:30) ضمن «عراقيات» في «دار النمر»