حتى وإن بدا بعيداً عنها، فهو لا يتردد في تلبية نداءها الجمالي، فها هو الملحن وصانع الأنغام العراقي البارع كوكب حمزة يهفو كسير القلب لمعشوقته التي رقّ لها كثيراً. ما إن دعته بيروت لحدث ثقافي عراقي، فسيغني بصوته المجروح شوقاً لبغداد من نص كتبته مريم خريباني. لا أغنية رقيقة مبتكرة الروح والنغم وجديدة الإيقاع عرفتها بغداد في فترة انفتاحها الثقافي والاجتماعي القصيرة في سبعينيات القرن الماضي، إلا وكانت طبعتها لمسة من كوكب حمزة، فهو من أخذ العاطفة من شكلها الضيق (حب امرأة لرجل) إلى أفق أوسع، كما في أغنيته الفريدة «هوى الناس» التي كان يرددها بصوته في حديقة جمعية التشكيليين العراقيين في بغداد يوم كانت فسحة للحداثة الحقيقية ثقافياً واجتماعياً، فتندى الأجواء وترقّ الأسماع وتهفو الأرواح. أربعة من أصوات الغناء «العاطفي» العراقي المعاصر في فترته الذهبية (جيل السبعينيات)، قدّمها كوكب حمزة: صوت الفرات الخضيب حسين نعمة عبر أغنية فريدة في وقتها هي «يا نجمة»، وستار جبار الذي مات سريعاً محترقاً بعذاباته الشخصية وعذابات بلاده، وسعدون جابر الذي لولا حذاقة كوكب حمزة في صنع ألحان تناسب صوته محدود الإمكانات لما وصل إلى ربع ما وصل إليه من حضور عراقي وعربي، والمطرب رياض أحمد الذي بدأ مشواره بأداء اللحن المركّب المسارات النغمية (صار العمر محطات) الذي ما انفكّ علامة على متانة النسيج اللحني عند كوكب وفرادته. وإذا كان هناك من تأثير تخريبي مريع للسياسة العربية والعراقية على الثقافة، فهو لا ينطبق على حقل إبداعي وفني مثلما ينطبق على الموسيقى. في حالة كوكب حمزة، فقد قتلته السياسة مرتين: مرة حين أقصته بكل غلاظة وقسوة عن بيئته الاجتماعية والثقافية في صدامه الشخصي والفكري مع النظام الديكتاتوري الحاكم في بلاده ليجد نفسه في منفى قاسٍ، يردّد في سهوبه المعتمة أغنيات لا يردّدها أحد، ومرة ثانية حين انتمى بصدق لفكرته الشخصية عن الجمال وانسجم عميقاً مع قيم الحرية، بوقوفه معارضاً لسلطة ما بعد 2003 في بلاده وعاند صعود قيم التخلف الحضاري السائدة فيها. منذ أيام، تدور أحاديث في الأوساط الثقافية في بغداد عن عودة وشيكة لكوكب حمزة إلى العاصمة العراقية، وإدارته منصباً في المؤسسة الثقافية الرسمية. غير أنّ حديثاً كهذا بدا مستهلكاً لكثرة ما تردّد بين فترة وأخرى طوال عشر سنوات أو أكثر. وعلى النقيض من إشاراته عن عودة الفنان إلى «موقعه الطبيعي»، فكوكب لا ينفيه فحسب بل يسخر منه، فهو إن عاد إلى بغداد إنما يعود إلى مدينته التي سماها «يا نجمة». وحين تقطّعت به السبل نحوها، غنى لها مناجياً «القنطرة بعيدة». هو من مركز حيويتها الثقافية وابن رفعتها الروحية مثلما هو أمير من أمراء أنغامها الرفيعة. يعرف كوكب حمزة جيداً أنّ الغربة طالت بل ثقلت عليه، فهو يقول: «ابتعادي عن هذا الرحم يؤذيني ويهزني بعنف، وهو ما أراه أحياناً يضعف جملتي الموسيقية ويشوّه روحي اللحنية. نعم الوجع الدائم لا يخلق فناً أو إبداعاً كبيراً، لذا أكثر المبدعين العراقيين في حال جدب وفي حال عدم قدرة على التعبير، فغربتهم طالت وامتدّ الوجع طويلاً، ومثل هذا الحصار الروحي أشك أنه ينتج فناً عميقاً». وهو بوعيه الحاد هذا إنما يعرف مأزقه وحدود محنته التعبيرية والإنسانية. وما بين جرحين تبادلهما مع بلاده عبر سلطتين بائستين سابقة وحالية، وقلب مشطور بين بغداد ودمشق، ثمة أغنية مؤجّلة تشبه فرحه شبه المستحيل بخروج جنوبه العراقي من مدار عذابه، ونغم تركيبي المسارات، يشبه التركيب المعقد لأزمته الروحية وأزمة وطنه ومجتمعه، ومن أجل أن يمتدّ تأثيره الروحي إلى أجيال جديدة ترنو إليه كطير من «الطيور الطايرة»، فيما هو يريد أن ينهي مشوار التشتت هذا في مراجعة عميقة مع النفس وسلام أعمق مع الناس... مراجعة كالتي بدت حينها سؤالاً وجودياً كان جريئاً للغاية بمواجهته كما فعل في أغنيته «يا ابن آدم».

* جلسة سمع عراقية: 12 تشرين الأول ـ س:19:00 ــــ استعراض تاريخي مع سامر مشعل وكوكب حمزة