القاهرة | منذ زمن يصعب تحديده، لم يُحدث فيلم ما أحدثه «الممر» من ضجة وجدل بين المصريين خلال اليومين الماضيين، بين مؤيدين يرونه عملاً استثنائياً وعظيماً، يوقظ حب الوطن، ويؤجج المشاعر، وبين معترضين يرون فيه عملاً فنياً رديئاً، أو متواضعاً، أفسدته النبرة الخطابية، والدعاية الفجة. «الممر» (إخراج وتأليف شريف عرفة، وبطولة أحمد عز، وهند صبري، وأحمد رزق...) انطلق عرضه منذ أسابيع، محققاً نجاحاً تجارياً نادراً ما حققه أي فيلم حربي، منذ «الرصاصة لا تزال في جيبي» الذي عُرض في الذكرى الأولى لحرب أكتوبر 1973. استغلالاً لهذ النجاح، ولأسباب أخرى منها حلول الذكرى السادسة والأربعين للحرب، وتذكيراً للناس ببطولات جيشهم في وقت مضطرب سياسياً، قرر أصحاب الفيلم عرضه على بعض الفضائيات المفتوحة، وسط دعاية هائلة استمرت أياماً، ما أسهم في حشد الملايين لمشاهدة الفيلم داخل البيوت أو في المقاهي في ظاهرة لم تحدث ربما منذ أن كان المصريون والعرب يتجمعون يومياً لمشاهدة مسلسل «رأفت الهجان»! لكن المشاهدة هنا تختلف كثيراً، إذ تغيب عنها حالة الإعجاب والانبهار الجماعي التي صاحبت أعمالاً مثل مسلسلي «رأفت الهجان» و«دموع في عيون وقحة» وفيلم «الطريق إلى ايلات»، لتعكس حالة انقسام يعانيه المجتمع المصري حالياً، بين مؤيدين بلا شروط ولا تحفظات لكل ما يقوم به النظام، ومعارضين يرون أن جيش أكتوبر يختلف عن جيش اليوم الذي يحتكر الحياة السياسية والاقتصادية وحتى الفنية، رافضاً السماح لأي صوت آخر بالكلام. هذا الخلاف المكتوم على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشارع المصري لا يسمح بالنظر إلى «الممر» كمجرّد فيلم سينمائي، بما له من مزايا فنية وما عليه من سلبيات وملاحظات.
خلاف وصل إلى تبادل الاتهامات بالخيانة والنفاق، وامتد إلى صفحات «بريئة» مثل مجموعات أمهات تلاميذ المدارس على «الواتس آب»، التي تحول بعضها إلى منصة للتراشق بين الأمهات المؤيدات والمعارضات!
المعجبون بالفيلم لديهم أسبابهم، على رأسها ضرورة تشجيع الإنتاج السينمائي الجاد، خاصة هذا النوع من الأعمال الحربية المكلفة، التي نادراً ما تنتجها السينما المصرية، لا سيما أنّ الفيلم يشهد قفزة على مستوى تنفيذ المعارك الأرضية والجوية. والنقطة الأهم أن الفيلم يعرّف الأجيال الجديدة بتاريخها وإنجازات جيشها وأعدائها الحقيقيين، كما يبثّ روح الانتماء والبطولة داخلهم.
المعجبون بـ«الممر» أشادوا أيضاً بشجاعته في تصوير فداحة هزيمة 1967، التي يبدأ بها الفيلم، نتيجة القرارات العسكرية الخاطئة والمتضاربة، ومدى الصدمة التي أحدثتها تلك الهزيمة في الداخل، وكيف استطاع المصريون تجاوز الصدمة والعودة إلى القتال بعد أسابيع من النكسة. كذلك أبدى بعضهم إعجابه بالتمثيل، خاصة بأداء إياد نصار، وأحمد عز، ومحمد فراج، وشريف منير وأسماء أبو اليزيد، واقتبس كثيرون بعض جمل الفيلم «الوطنية» ليعبروا عن إحساسهم بالفخر والوطنية.
من ناحية ثانية، أبدى بعضهم ملاحظات على السيناريو والإخراج، امتدت من مضمون ومستوى الفيلم إلى بعض تفاصيله، حيث عبر صحافيون عن استيائهم من الصورة التي ظهرت بها شخصية الصحافي في الفيلم (أداها الممثل الكوميدي أحمد رزق)، إذ يظهر كمحرر فني مرتشٍ يعمل لدى اثنتين من الراقصات. ونتيجة تعرّضه لحادث سيارة «رباني»، يقبل أن يذهب إلى الجبهة كمراسل حربي. كلها تفاصيل تخالف الواقع، لأنّ المراسلين الحربيين يتم اختيارهم عادة بدقة صارمة. وعلى عكس ما يظهر في الفيلم، كان الصحافيون المصريون بعد 1967 يتسابقون للذهاب إلى الجبهة كمراسلين أو محاربين.
فيلم عادي يُعرض في ظروف استثنائية، ما جعله حدثاً سياسياً واجتماعياً


ملحوظة أخرى تتعلق بدور الصحافي ومشاهد أخرى في الفيلم، هي وضع فنون اللهو والتسلية التي انتشرت عقب هزيمة 67 في تعارض ومواجهة مع الوطنية والانضباط، وهي فكرة نمطية من عمر السينما المصرية، لا علاقة لها بالواقع. إذ نعلم أن الجيوش الكبيرة كانت تستقدم لجنودها راقصات ومغنين للترفيه عنهم أثناء الحروب. كما نعلم أن انتشار الفنون «الهابطة» عقب النكسة كان رد فعل على الإحباط والحزن، ونوعاً من التنفيس شجعت عليه الدولة نفسها.
من الملاحظات الأخرى على «الممر» علاقة الحب والارتباط غير المنطقية التي نشأت بين أحد الجنود وفتاة بدوية من سيناء في عز احتدام المعارك، كما لو أننا في أحد أفلام رعاة البقر، وليس في سيناء، حيث يصعب إلى اليوم أن ترى وجه بدوية، ناهيك بأن تحبها وتغازلها.
ملاحظات أخرى تتعلق بشكل وملابس وماكياج الممثلين، بخاصة أحمد عز، بينما علق آخرون على رأس الممثل أحمد صلاح حسني الذي ظل حليقاً طوال الفيلم، علماً بأن شعر لحيته طال مثل بقية زملائه بعد قضائهم أياماً عدة ضائعين في الصحراء! وهناك ملاحظات أخرى طالت الحوار «الإنشائي» المدرسي الذي كتبه أمير طعيمة، وكذلك أداء أحمد عز، وهند صبري، وأحمد فلوكس، حيث غلب عليهم التشنج والمبالغة، على عكس الأداء الهادئ المتمكن لإياد نصار في دور الضابط اليهودي ومحمد فراج في دور الجندي الصعيدي البسيط.
«الممر» في النهاية مجرد فيلم عادي، يعرض في ظروف استثنائية، ما جعله حدثاً سياسياً واجتماعياً، خاصة أنه يأتي في وقت تعاني منه صناعة السينما المصرية من أزمة إقبال على دور العرض، ومن إهمال من قبل الفضائيات العامة والمتخصصة في السينما، التي نادراً ما تعرض فيلماً حديث الإنتاج، مكتفيةً باجترار الأفلام القديمة. وهو ما أسهم في تحويل عرضه التلفزيوني إلى «حدث»!