تسلّمت من أستاذنا المعمار رهيف فياض ما كتبه ونشرته جريدة «الأخبار» قبل أشهر حول إعادة إعمار سوريا. وإذا لم يكتب د. رهيف، صديق سوريا، عن هذا الموضوع، فمن غيره سيكتب؟ وهو الذي زارها مراراً ليطمئن عليها في أحلك أيامها ظلمة، والتقط صور جروحها بعدسته، وهو الذي قاطع المؤتمرات حين لم تعطَ بلدانها تأشيرات للمشاركين السوريين. مقالاته أشرقت من صندوق بريدي، لتضيء نهارات بعدها. أحببتها. أحببت موضوعها وأسلوبه السلس، ببساطته الصعبة ومفرداته الدقيقة وعفويته المدروسة. وأحببت الشغف الذي وشى به إخلاص نسج سطوره، وامتزاج العلم والفن بالأدب في جمله. ورغم أني حين يكتب أستاذنا أقرأ وأتعلم، لكنني سمحت لنفسي أن أعبر عن أهمية هذه المقالات مستخدمة جمله بحرفيتها:المدينتان اللتان كانتا محوراً للدراسة هما دمشق وحلب. بدأ بتلخيص تاريخي ذكي وممتع ومفيد لأننا إذا كنّا سنتحدث عن غدنا يجب أن نعرف يومنا وأمسنا. حلب بناها السلوقيون «بإملاءات المكان الطبيعي للمدينة» لتحمل «الجزء الأهم من الذاكرة الجماعية لناسها». نادى باحترام «مكان تمدد حلب الطبيعي والمحافظة على قلبها كما كان». شعرت بوجعها في كلماته. عندما وجدها بعد الحرب و«معظم الأسقف التصقت بالأرض، ومعظم الجدران أصبحت حجارة». فكتب: «عرفتُ هذه الأمكنة، ولا أستطيع أن أتصور حلب بدونها، إنها روح المدينة بالنسيج الاجتماعي الذي يتذكر تواصل التاريخ فيها، وتدميرها ليس مجرد عمل حربيٍّ عادي. إنه محاولة اغتيال واضح لتماسك الجماعة، ولتزوير هوية الأمكنة ولانتزاع عنيف لهوية ناسها، الهدف المختبئ يتعدّى البعد العسكري، إلى بُعد قتل روح الصمود عند الناس، وتفكيك المجتمع وجعله جاهزاً للاستسلام وللخضوع. الحرب في هذه الأمكنة، هدمت كل شي، وإعادة الإعمار كلية. نعيد إعمار قلب المدينة لنحتضن روحها وهويتها، ولنحصّن الذاكرة الجماعية لدى أهلها». لكن لا شيء يزلزل يقينه بأصالتها وبقائها: «سيتعزّز دور حلب بالتأكيد، في الدولة السورية، السيدة. إلا أن هذا الدور المعزز في مدينة تاريخية، تراكمت فيها الحقبات خلال خمسين قرناً، يضيف إلى الصفحات المتراكمة، صفحات جديدة سيكتبها، ومهما بلغت درجة الانزلاق الموجع راهناً، سيكتبها التاريخ، والانتماء والهوية وستبقى حلب حلباً». فالمثقف العربي ذو النفس الوطني القومي يطل بين مفرداته: «انطاكية (التي كانت لنا)».
أما المدينة الثانية التي تحدث عنها د. فياض فهي دمشق... دمشق التي تسكن وجدانه، حيث «جامع دمشق الأموي، هو المعادل المعماري لعظمة الإمبراطورية الإسلامية». فهو يغازل الزخم المخزون في أقدم عواصم الدنيا: «وهل من مكان أكثر أهمية، وأكثر ثراء بتراكم الحقبات، وتراكم العمارة المحلية مع الحقبات؟ وهل من مكان أفضل من دمشق لاكتشاف عمارة محلية وتطويرها، لتكون في مكانها «فن المكان»، نقيضة لبهلوانيات وبهرجة عمارة العولمة؟».
«دمشق الكبرى» التي تضمّ كل الضواحي «لأن دمشق تعتبر ريفها، حديقتها الخلفية، تشرب ماءها، وتتملك أرضها، وتجعلها مصباً لمياهها المبتذلة ومكباً لنفاياتها».
أحببت الطرح المعماري الذكي الذي قدمه، الزاوية التي رأى وأرانا منها.. موصّفاً إعادة الإعمار: «بإعادة إنتاج علاقة الناس بالأمكنة، بحيث لا يشعرون عند عودتهم بأي غربة. فتتم المحافظة على الجادات العريضة، والشوارع الرئيسة، والدروب المتفرعة منها. الحاملة العنيدة، للذاكرة الجماعية لناس الأمكنة»، ليأتي النسيج الذي أعيد بناؤه «حاملاً روح النسيج المدمّر وطابعه. ثم نرمّم كل المتبقي، بلغة معمارية تكتبها لغة النسيج الموجود، الذي قد تم ترميمه وتجديده وكسوته، برداء راهن، روحه من روح المكان. يعود ساكنوه القدامى إليه، فلا يُصدمون بجديد غريب يفرض من خارج نطاق ذاكرتهم الجماعية».
بالنسبة إليه، إنه «تنظيم مديني موضعي، أعمال إعادة الأعمار فيه، هي مثل الخياطة، مثل سد ثقب في ثوب، أو أحسن من ذلك، مثل الرتي. ورتي الثقب في الثوب، يتم بخيوط مأخوذة من الثوب ذاته». يؤكد الدكتور على عدم توسيع رقعة الدمار، والترميم بذكاء وأمانة، والحفاظ على المساحات المفتوحة، لأنها «مسام دمشق الكبرى. فيها تتنفس الجماعة وفيها تعيش». ثم يكثف معلوماته وخبرته في توصياته لمن سيوجه إعادة الإعمار، في التمييز بين ما يمكن ترميمه، وبين ما لا بدّ من هدمه وإعادة البناء مكانه: «التأليف المقترح يبقى جسماً غريباً أُسقط في أرض ليست أرضه، وفي أمكنة ليست أمكنته ولناس مفترضين، هم بالتأكيد ليسوا ناسه. لأن الناس هنا، هم ناس المكان، الغربة، والافتعال، لا يحجبهما الكلام عن التكنولوجيا المتقدمة والإطناب بالجهد الإنشائي، إنها ليست حلولاً، إنّها فقاعات يسميها البعض مساكن»، ثم يناقش من دون مواربة حساسية مسألة العشوائيات، لأن «المستوطنات غير القانونية بؤر» ممكن تسوية أمورها: «الحرب ليست فرصة لتحديث الأمكنة، وليست فرصة لتأديب المخالفين، أو فرصة لإشباع نهم المضاربين الجشعين. وهي خاصة، ليست فرصة لزرع جسم مبني غريب وسط نسيج، هو جزء من الذاكرة الجماعية للناس. التوجه خاطئ مهنياً واجتماعياً واقتصادياً». علينا «إعادة بناء ما تهدّم في الحي، بروح ما هو موجود، ولا أقول بعمارة مشابهة. مع إيجاد سبل للتسوية مع المخالفين، لأن يقيني أن التسويات هي الحل الوحيد، الذي لا وجع فيه».
نحن في مفصل تاريخي، ويجب أن نتحمّل المسؤولية. بعد «سبحة المخططين» الأجانب، يؤكد المعمار الكبير أنه لا بد من التروي في إعداد المخططات التنظيمية، فيشير إلى أهمية تعديل تنظيم حلب وخاصة منطقتها الصناعية، و«عدم توسيع رقعة الدمار». أما بالنسبة إلى دمشق، فـ«التوجهات العامة في المخطط التوجيهي لدمشق الكبرى هي بلورته لفكر تخطيطي وتنظيمي مديني، يُصاغ لتمتين وحدة الجماعة وتماسكها في المدينة الكبرى، وربما، لتشجيعها على الحلم الواحد، وعلى الأمل. ورفض قمع ساحة الأمويين بأبراج ماروتا وباسيليا»، و«أن لا يسقط التنظيم بالمظلات، دوحة ودبي، بوابة لساحة الأمويين في دمشق التاريخية». ويكون ذلك بالمحافظة على «صورة دمشق وانتمائها وهويتها»، و«الصياغة بلغة معمارية تنبع من روح المكان، أليفة، غير مغرّبة».
يؤكد أهمية المشاركة بين الدولة والمنظمين والسكان في إعادة إعمار سوريا


لذلك، فهو يستبعد عمارة الأبراج: «أن يحمل النسيج المعاد بناؤه روح النسيج المدمر، وتجنب الأبراج والنسيج المغرّب». ويحذر بحكمته، من مخططين «تبدو لهم طاولة المكان فسيحة، فارغة، نظيفة، إلا من أوهامهم، التي سيرصفونها في مخططاتهم الجديدة، وقد استعملوا في كتابتها، أكثر التقنيات الرقمية إبهاراً ليخططوا لمدن مثالية نظيفة، كلّ ما فيها منتظم، يسكنها ناس آليون يعملون بالريموت كونترول».
«سيجلبون شركات عقارية عملاقة، تبني فوقها الأبراج، يملكها أغنياء لم يأتوا.. فتبقى فارغة تحكي فراغ قلب المدينة التاريخي.. لن يقوم في ناطحات السحاب هذه مجتمع، ولن تقوم فيها مدينة. وكل نزهة هناك، تروي هذه الحقائق الموجعة».
بوضوح وأفكار مرتّبة، يكتب فياض العمارة بلغة إنسانية، يعالجها دوماً من منظور «هؤلاء الذين انحشروا في زواريب المدينة»
وبناء على نجاح تجربته في مشروع «وعد» في ضاحية بيروت، يؤكد أهمية المشاركة بين الدولة والمنظمين والسكان، في إعادة الإعمار، من أجل أن يبقى «ناس الأمكنة» فيها: «سينظر هؤلاء إلى الذي يُعرض عليهم من مخططات تنظيمية ومن مناظير إشهارية مفخمة. وستفاجئهم، خاصة، عمارة الأبراج المقترحة بارتفاعها، وبزخرفها، وبهيكلها الإنشائي الراقص حيناً والمتلوي أحياناً. وسيخاف واحدهم من السكن في الطابق 22، وهو يتذكر بيته الأصلي الصغير القريب من الأرض الصلبة، بنوافذه المعتدلة القياسات، وشرفاته، التي يحاكي منها جاره الساكن قبالته في بناء مشابه. سيخاف. سيبيع أسهمه. سيشتريها رأسمالي عقاري». في النص شجاعة تسمية الأشياء بأسمائها، في وقت قد تنصب الكلمات مقصلات أصحابها.. وإلا «ستبقى الأبراج فارغة كما عندنا في سوليدير بيروت، وسيطغى على ساحة الأمويين، ويقزمها هذا النسيج المبني الهجين في المضمون، العتيق في التأليف المديني، المنقول بحرفيته عن مفاهيم التنظيم المديني المسمى حديثاً، اصطفاف عسكري، لكتل قامعة في حضورها، ولغة معمارية لا يستطيع الزخرف والافتعال، وكثرة الزجاج الملون، أن يضفي عليها طابعاً إنسانياً مطمئناً»، ببساطة لأن: «من اعتاد السكن في نسيج مبني له علاقة واضحة بالأرض الصلبة تحت قدميه، فهو لن يستبدل هذه العلاقة الإنسانية، بفقاعة معلقة بين الأرض والسماء والأرض». أخيراً، أعجبني تلخيص أستاذنا العبقري لرؤيته منذ البداية في العنوان العميق للبحث: «إعادة إعمار سوريا، أم إعادة إعمار ما دمرته الحرب في حواضرها؟». شكراً لفيضك المرهف أستاذنا المعمار رهيف فياض.

* معمارة وكاتبة سورية، رئيسة «مركز ترميم العمارة والتراث»