صحيح أنّ من الصعب على الدراما التلفزيونية التدخّل في المجريات السياسية العامة والشراكة الواقعية في صناعة القرار، إلا أنّه يمكنها بصريح العبارة أن تكون شاهدة على العصر، أقلّه في عالم مسوّر بالقمع مثل وطننا العربي. إذ يتاح أمام صنّاع الدراما بما يملكونه من جرأة وبراعة، التصدي للممارسات الدكتاتورية في السلطة من خلال فضح المأزوم من عقليّتها، وما أرسته من قوانين المزارع التي تتناهشها عصابات ومافيات لا أحد يجرّب وضع حدّ لها لا في السلم ولا في الحرب. ولعل الخطيئة الكبرى في عصر السوشال ميديا والانفتاح المطلق، هي التمسّك بمفاهيم رقابية بائدة، ومحاولة إجهاض التجارب الإبداعية بحجة المساس بالمحظور. بعيداً عن عمومية ما سبق، ربما تكون الميزة التي طغت على الدراما السورية على وجه التحديد في الموسم الماضي هي السقف الرقابي العالي، نتيجة تسليم منصب مدير الرقابة الفكرية على النصوص لشاب منفتح ومثقف يُدعى سومر إبراهيم. هذه الميزة صارت سبباً وراء سلسلة جديدة من المنع والتصدّي الرقابي وإحباط أي محاولة لاقتحام الأماكن المعتمة التي لم تطلها أضواء الفن. فبعدما أباحت الرقابة في الموسم الماضي ثلاثة نصوص جريئة هي «مسافة أمان» (إيمان السعيد والليث حجو)، و«عندما تشيخ الذئاب» (عن رواية جمال ناجي كتابة حازم سليمان وإخراج عامر فهد)، و«دقيقة صمت» (سامر رضوان والراحل شوقي الماجري)، خرّب كاتب العمل الأخير كلّ شيء وقلب السحر على الساحر. جاء ذلك عندما اعتبر أنّ إباحة مسلسله الذي صوّر داخل سوريا هي بمثابة «هفوة من الدولة ستندم عليها»، قبل أن يضع نفسه نداً في مواجهة السلطة، ويجرّب تصفية حساباته الشخصية من خلال تصريحات أثارت حفيظة الجهات المعنية في سوريا، وبدأ السباق نحو التنصّل من المسؤولية. قبلها، كان قد أطيح مدير الرقابة الشاب، والعودة إلى مدير سابق هو فراس موسى! طبعاً، الحالة دفعت إلى التشبث بقوانين رقابية متشددة، والتدقيق الصارم في كل النصوص المقدمة. ولعل أوّل الغيث كان رفض نص جديد لرضوان سبق أن اشترته منه شركة «عاج» ودفعت جزءاً يسيراً من ثمنه، فيما كان أول إنجازات اللجنة الرقابية رفض نص ثان بعنوان «إخوة وأعداء» (كتابة ديانا جبّور وإخراج أحمد إبراهيم أحمد وإنتاج شركة «إيمار الشام»). إذ صدر قرار بمنع المسلسل، معتبراً أنّ النص «ترجمة مشهدية من حيث الخطاب التصنيفي العنيف للمعارضة المسلحة، وخصوصاً بشقّه الطائفي والمجتمعي ويبرر للتكفيري إطلاقة لباكورة الشعارات الطائفية التي انطلقت في بداية الحرب حول الإبادة والترحيل لمكونات سوريا بعينها». الكلام كفيل بإحالة كاتبة المسلسل نحو محاكمة بسبب العنف الواضح في اللغة، وتحميل المسلسل أكثر مما يحمله، وخصوصاً أنّه بعد هذه اللغة المنعيّة بشكل قطعي، صدر قرار جديد بتاريخ 29/9/2019 يفيد بأنّه تم تشكيل لجنتين رقابيتين منفصلتين قرّرتا بإجماع أعضائهما رفض العمل بسبب مجموعة «إشكالات». غير أنّه نتيجة اعتراض الجهة المنتجة، تقرّر تشكيل لجنة ثالثة لتعيد قراءة النص والحكم النهائي بخصوصه. وربّما يكون في تلك الخطوة فرصة أمام كاتبة السيناريو لإجراء تعديلات جذرية تحظى بالموافقة الرقابية. يقدّم المسلسل حكاية اجتماعية حساسة في فترة غنية بالأحداث اللاهبة من ثمانينيات القرن الماضي ويتطرق إلى تنظيم «الإخوان المسلمين» وصراعهم المسلّح مع الدولة السورية، ويحكي عن كواليس حياة بعض الضبّاط وعائلاتهم! إلا أنّه لم يسبق لدائرة الرقابة أن منعت مسلسلاً على الورق، وإنّما جرت العادة أن يتم وضع ملاحظات ليتم تلافيها، ومن ثم عرض العمل على لجنة رقابة المشاهدة وهي من تقرر جواز المسلسل ومنحه رخصة تصدير لإمكانية بيعه للمحطات العربية.
تقرّر تشكيل لجنة ثالثة لتعيد قراءة نص ديانا جبّور والحكم النهائي عليه


في حديث مع «الأخبار»، يشرح الإعلامي سومر إبراهيم أنّ «المحظورات الرقابية أو الخطوط الحمر محصورة في مؤسسة الجيش العربي السوري، والعلم السوري، ومقام الرئاسة، ما عدا ذلك، كل شيء مباح لكن بشريطة أنه عندما يتم التطرق إلى مواضيع حساسة لها علاقة بالدين أو الجنس أو السياسة، يجب أن تتم معالجة المحاور بوعي وبنضج واتزان، بعيداً عن التحريض، بمعنى أنه عندما يتم طرح شخصية رجل دين فاسد، لا بد من طرح بديل نقيض، أو أن يكون مآل رجل الدين الفاسد إلى نهاية سلبية، حتى لا تتحول هذه الشخصية إلى قيمة مكرسة لدى المشاهد. ثم لا يمكن للدراما من وجهة نظر الرقيب أن تظهر كل البلاد فاسدة من دون وجود طرف خيّر، ولا يمكن تظهير فكرة الدولة التي تسعى إلى الفساد بكل منظوماتها كاملة، إذ لا بد من التوضيح بأن السلوكيات المنحدرة مرتبطة بأفراد محددين». ويضيف: «هذه المحددات الرقابية يعرفها الجميع، لكن لا يمكن اللعب بجرأة إلا إذا كان الكاتب يمتاز بملكة وموهبة وثقافة واطلاع وتحايل ذكي، ولا أحد يمنح سقوفاً رقابية مرتفعة، بل شخصية الرقيب وثقافته وحنكته هي ما تمنحه السقوف، نتيجة الثقة بنفسه ليقول بأنّه موافق». لكن أليس من المفترض أن تكون الرقابة على السوية الفنية والمستوى اللائق بدلاً من إضاعة الوقت ووضع تابوهات في وجه التجربة الإبداعية؟ يجيب إبراهيم بأنّه «قد يجد أحد العاملين بنفسه الكفاءة ليحكم ويقيّم على الشرط الفني، لكن هذه الميزة لا يمكن أن تكون موجودة لدى جميع العاملين في هذا الحقل. هذا من جهة، من جهة ثانية فالفن السيّئ موجود عبر كل العصور والأزمان. وخلال السنوات الماضية، طفت الدراما السيئة في سوريا على السطح بسبب انكفاء التجارب الجيدة. ومع ذلك، شاهدنا العام الماضي أمثلة ناصعة على دراما متماسكة. لذا لا يمكن أن توقف الدراما السيئة بقرار، إنما يمكن محاربتها بتكريس الدراما الجيدة وتشجيعها على الإنجاز ودوران عجلتها بسرعة أكبر».