غزة | أول من أمس، رحل «شاعر الثورة الفلسطينية» أبو عرب (إبراهيم محمد صالح 1931 _ 2014) في مقر إقامته في حمص، ومعه انطلقت حملات النبش والتقليب في أرشيفه الزاخر بأغنيات تنبض بالقضية الفلسطينية.صراعه الطويل مع المرض لم يُسكت حنجرته العذبة وبحّة صوته الشجية. حين كان ممدّداً على فراش الموت كطفلٍ صغير، شدا للوطن بصوتٍ تسكنه كل عذابات الفلسطينيين. إبراهيم محمد صالح الملقّب بـ«أبو عرب» ليس مجرد اسمٍ تزدان به قائمة الفنانين الفلسطينيين.

هو حكايةٌ تشابكت فيها حروف الحنين إلى الديار مع قَسَمٍ بعدم محوها من ذاكرته. «ما نسيتك يا دار أهلي ما نسيتك يا دار. كني بنسى دمي وجرحي، بنساكي يا دار». كلماته حُفرت في نفس كلّ تواقٍ للعودة إلى بلاده. كان أبو عرب بمثابة قضية تضافرت فيها كلّ عوامل نصرتها. لم يضع خطاً فاصلاً بين حياته الشخصية وأغانيه الوطنية. اتّسمت العلاقة بين حياتيه الشخصية والفنية بالتكامل. والده استشهد خلال اجتياح قوات الاحتلال لفلسطين عام 1948، وعاش أبو عرب وجعاً مضاعفاً حين رثى ابنه الشهيد في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وقع في غرام الكوفية الفلسطينية، فالتصقت به والتصق بها. لم تفارق رأسه تلك الكوفية التي أهداه إياها الرئيس الراحل ياسر عرفات. كان شديد الاندماج مع أغانيه، يؤديها بإحساسٍ عالٍ، ملوّحاً على وقعها بصديقته الكوفيّة. «شاعر المخيمات» جمعته مسيرته بعددٍ من القادة والكتّاب والشعراء، بينهم ياسر عرفات، وخليل الوزير، وصلاح خلف، وشفيق الحوت، وسعد صايل، وغسان كنفاني، وناجي العلي، ومظفر النواب، وجمال عبد الناصر، وجورج حبش، وأحمد فؤاد نجم، وأحمد مطر، ويوسف الخطيب، وعبد الرحمن الأبنودي. مرّ في حياته بكل هذه الأسماء، غير أنّ حلمه في المرور بطريق فلسطين ظل يراوده، إلى أن مرّ بطريق مسقط رأسه قرية «الشجرة» (قضاء طبرية) عام 2012 بعد 64 عاماً من الغياب. لم يتمالك نفسه وهو يتجوّل بين شوارع القرية، فأنشد ارتجالاً للقرية ولعين الماء فيها وشجرة التوت في داره.
منذ أن دقّت ساعة النكبة، لم يبخل أبو عرب بحنجرته على القضية، غير أن مسيرته انطلقت بشكل منظّم ومكثّف عام 1978 حين طلب منه عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، الشهيد ماجد أبو شرار، تسجيل الأغنيات والأهازيج الوطنية في إذاعة «صوت فلسطين». هكذا، سجّل أكثر من 16 شريطاً ضمّت 140 أغنية استمر تسجيلها حتى 1982. أنشأ فرقته الأولى عام 1980 باسم «فرقة فلسطين للتراث الشعبي». كان «صوت الثورة» شغوفاً بالفنان الشهيد ناجي العلي، فخلّد اسمه بتغيير اسم فرقته إلى «فرقة ناجي العلي». راكم أبو عرب كمّاً كبيراً من أغنيات الثورة، قبل أن يغمض عينيه، تاركاً خلفه 300 أغنية منذ السبعينيات. حالة الترحال التي عاشها بين تونس ولبنان وانتهاءً بسوريا، دفعته إلى ترسيخ مفاهيم التشبّث بالعودة ومفتاحها، متوسّلاً تارةً البحر ليهدئ من حركته علّه يوصل سلاماته للأرض التي تربّى في كنفها (هدّي يا بحر هدّي، طوّلنا في غيبتنا، ودّي سلامي ودّي، للأرض اللي ربتنا)، وطوراً لدياره كي لا تشرع أبوابها في وجه أحدٍ طيلة غيابه عنها. اجتمعت في شاعر الثورة كلّ ميزات الفنان، فألّف ولحّن أغانيه من أشهرها: «من سجن عكا»، «العيد»، «الشهيد»، «دلعونا»، «يا بلادي»، «يا موج البحر»، «هدي يا بحر هدي»، «ما نسيتك يا دار أهلي»، وأغاني العتابا والمواويل. رحل أبو عرب من دون أن يغمره تراب قريته «الشجرة»، فبقيت أغنيته «مهما طولنا المشوار، راجعلك يا ديرتنا» يتردّد صداها على امتداد الوجود الفلسطيني، فمشوار أبو عرب طال، لكن هذه المرة ليس بعيداً عن «الشجرة» فقط، إنما بعيداً عن الأرض كلها!

يمكنكم متابعة عروبة عثمان عبر تويتر | @OroubaAyyoubOth