«سالي، لم تسبق لك أبداً مشاهدة شارع مثل «شارع سمسم». كل شيء يحدث هنا». هذه الكلمات القليلة لشخصية «جوردون روبنسون» كانت من أوّل ما قيل في البرنامج الطموح الذي عُرض للمرّة الأولى على «التلفزيون الوطني للتربية» (عمل بين عامَيْ 1954 و1970) في الولايات المتّحدة في العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1969، قبل أن ينتقل عرضه اليوم إلى شبكتَي HBO وPBS الأميركيتَيْن (المنتج المنفّذ حالياً هو بين ليمان). قرابة خمسة آلاف حلقة وجدت طريقها إلى الشاشة الصغيرة حيث شاهدها ما يزيد عن 100 مليون شخص من مختلف الأعمار والخلفيات في أكثر من 150 دولة حول العالم، مع 189 جائزة «إيمي» و11 جائزة «غرامي». هذه لمحة بسيطة يمكنها اختصار المكانة التي حجزها برنامج «شارع سمسم» في عالم التلفزيون منذ نصف قرن. قبل أيّام، احتفل هذا العمل الذي تابعه ملايين الأطفال بلغات عدّة بعيده ميلاه الخمسين. سنوات طويلة، غيّر فيها «شارع سمسم» الكثير في وسائل التعليم في مراحل الطفولة، كاسراً الكثير من الصور النمطية ومؤسّساً لمسار جديد في هذا العالم، من دون أن يسلم من الانتقادات طبعاً.
على مدى سنوات، سجّل عدد كبير من النجوم حضورهم كضيوف في العمل

البداية كانت في أروقة «هارفارد»، حين اتّجه الطبيب النفسي ليود موريسيت والمنتج التلفزيوني جوان غانز كوني إلى كلية التعليم التابعة للجامعة الأميركية العريقة، وعرضا على المسؤولين هناك توجّهاً جديداً لتعليم الأطفال الأميركيين. يومها، تمثّلت الترجمة العملية للأفكار بتعاون بين منتجَيْ البرنامج وعلماء نفس تقدّميين لتحليل نفسية الأطفال، بهدف خلق «وسيلة تلفزيونية جديدة للخروج بدروس ترفيهية للأطفال»، على حدّ تعبير «هيئة الإذاعة البريطانية». بعيداً من الرسوم المتحرّكة التي كانت سائدة يومها أو البرامج المصوّرة في استديوات باهتة، دارت قصص هذا العمل في شارع عاديّ بدلاً من عالم خياليّ. أمّا الأبطال، فهم أربع شخصيات حقيقية منوّعة عرقياً تقوم بوظائف واقعية، الأمر الذي اعتُبر في ذلك الحين «قراراً تاريخياً غير مسبوق»، بالإضافة إلى دمى متحرّكة (تصميم جيم هينسون)، أشهرها: «بيرت»، و«إيرني»، و«بيغ بيرد»، و«كوكي مونستر»، و«كيرميت» (أدّاه هينسون). إلى جانب طرح مواضيع جريئة أو أخرى مألوفة بطريقة خارجة عن السائد، استضاف Sesame Street مروحة واسعة جداً من المشاهير، تبدأ من محمد علي كلاي وبيرت لانكاستر وبيبي كينغ ولا تنتهي بديفيد بيكهام وروبين وليامز وديفيد بووي وإيد شيران وبيونسيه وتايلور سويفت.
لعبت الموسيقى دوراً أساسياً في جاذبية العمل، وخصوصاً أغنية الشارة التي كتبها جو رابوسو


فكرة استخدام التلفزيون في التعليم كانت مبتكرة في ذلك الوقت، كون هذه المنصّة لطالما كانت مرتبطة بالكسل واكتساب الأطفال عادات سيئة. الموسيقى لعبت كذلك دوراً أساسياً في جاذبية العمل، وخصوصاً أغنية الشارة التي كتبها جو رابوسو تحت عنوان ?Can You Tell Me How to Get to Sesame Street.
في مقابل الثناء الذي يحظى به غالباً، خرجت في البدايات أصوات مندّدة بطريقة تصوير الأقليات فيه (السود والشخصيات من أصول لاتينية)، إلا أنّ صنّاعه يؤكدون دائماً على عملهم «الدائم لتفادي مثل هذه المطبّات وتصحيح الأخطاء». مَن شاهدوا البرنامج في السبعينيات والثمانينيات يعترضون على صعود «إلمو» صاحب السلوك الطفولي، ناهيك عن زيادة التركيز حالياً على المضمون المستند إلى القصة، والذي قد يستمر حتى 10 دقائق. هنا، يوضح بين ليمان أنّه «صرنا على دراية الآن بأنّ الأطفال يحبون فعلاً سرداً أطول».

اتهامات للعمل بالتخلّي عن تقديم محتوى نوعي للأطفال، بغض النظر عن قدراتهم المادية»


ولعلّ أكثر ما يثير الحفيظة اليوم هي الصفقة التي أبرمتها منظمة «ورشة سمسم»، وهي مجموعة غير ربحية تقف وراء برنامج «شارع سمسم»، مع شبكة HBO والتي تمنح بموجبها المشتركين إمكانية مشاهدة الحلقات الجديدة قبل عرضها على PBS (رسمية). وهو ما رأى فيه كثيرون تناقضاً مع الهدف الأساسي للعمل والمتمحور حول «تقديم محتوى نوعيّ لكلّ الأطفال، بغضّ النظر عن قدراتهم المادية».
لا شك في أنّه بعد مرور كلّ هذا الوقت، لم يعد «شارع سمسم» مجرّد برنامج تلفزيوني يمزج بين الترفيه والتعليم والتثقيف، وإنّما خرج أبعد من حدود الجهاز الذي يحتويه. فقيمة هذا العمل لم تعُد تُقاس بـ«مَن يجلس أمام الشاشة لمتابعته» لأنّه كما يؤكد تيّار واسع من المراقبين والمتخصصين في صناعة التلفزيون أصبح «منتجاً ثقافياً».

«إيرني» و«بيرت»




الدمية «ليلي»
«ليلي» هي دمية بلا مأوى قدّمها «شارع سمسم»، في نهاية 2018، بهدف رفع الوعي لدى مشاهديه الصغار حول معاناة المشرّدين. تعيش هذه الطفلة مع والدَيْها في بيت أحد الأقارب بعدما فقدوا منزلهم، وقد ظهرت وهي تتحدّث للدمية الشهيرة «إلمو» عن حالها أثناء رسم قوس قزح. وعندما استخدم الاثنان اللون البنفسجي، تذكّرت «ليلي» لون غرفتها، وأخذت تحكي كيف أنّها تفتقدها، ثم قالت بنبرة حزينة: «لم أعد أريد التلوين». لكنّ محبّي برنامج الأطفال الشهير، أكدّوا عبر مواقع التواصل الاجتماعي أنّ «ليلي» ليست أوّل دمية بلا مأوى تظهر فيه كما يُشاع، مشيرين إلى أنّ «أوسكار ذا غروتش» الذي يتّخذ من برميل قمامة مكاناً للعيش «كان مشرّداً منذ حرب فيتنام». حين عرّفت الجمهور إلى «ليلي»، لفتت منظمة «ورشة سمسم» إلى أنّ أكثر من مليوني ونصف طفل في الولايات المتّحدة يعانون من التشرّد، «نصفهم تقريباً تحت سن السادسة». وأضافت: «نعرف أنّ الأطفال المشرّدين غالباً ما يعانون من صدمات نفسية حادة، وربّما عانوا من مشاكل مثل فقر أو عنف أسري أو صدمات أخرى سبّبت عدم وجودهم في منازلهم». علماً بأنّ كثيرين يذكرون «كارلي» أيضاً، الطفلة التي تعيش في دار رعاية لأمّ تقاوم إدمان المخدرات.


«جوليا» والتوحّد

شاركت ميشيل أوباما في حلقة في 2009 حول الغذاء المتوازن للأطفال

في 2015، أعلن منتجو «شارع سمسم» في بيان رسمي أنّ دمية جديدة ستنضم إلى البرنامج في مبادرة للمساعدة على إلغاء التعاطي مع التوحّد كـ«تابو». الدمية الجديدة تُدعى «جوليا»، وهي طفلة في الحضانة تعاني من التوحّد، وتتعاطى مع الأمور بطريقة مختلفة قليلاً عن أصدقائها «إيلمو». شكّلت «جوليا» جزءاً من مبادة رقمية جديدة لـ«ورشة سمسم» بعنوان «شارع سمسم والتوحّد: شاهدوا الإذهال في كلّ الأطفال»، وهو يتضمّن تطبيقاً إلكترونياً، إلى جانب مصادر إلكترونية منوّعة تساعد الأهل الذين يربّون أطفالاً مصابين بالتوحّد على فهم الحالة والتعامل معها بالطريقة المثلى. وفي ما يتعلّق بتصرّفات الشخصية الجديدة، لفت البيان إلى أنّها مثلاً «لا تنظر إلى عيون الأشخاص مباشرة، وهي أكثر حساسية تجاه الأنوار والأصوات».


جرأة الطرح
عند وفاة الممثل ويل لي إثر أزمة قلبية، وهو من أوائل الممثلين الذين ظهروا بشخصياتهم الحقيقية في البرنامج من خلال لعب دور البقّال «الأستاذ هوبر»، اتّخذ المنتجون قراراً جريئاً بشرح فكرة الموت للأطفال. هكذا، فسّر الممثلون لإحدى الدمى أنّه «عندما يموت شخص، لا يعود إلينا مجدداً، لكن ذكراه تبقى، بينما يتولّى آخرون استكمال عمله». وأعيدت هذه الكرّة مراراً، كما حدث حين عمد «شارع سمسم» كذلك إلى شرح أفكار قاسية أخرى بالنسبة إلى الصغار على شاكلة الطلاق والتنمّر والتشرّد والفقر، إيماناً من القائمين عليه (مع استشارة خبراء في التربية وعلم نفس الأطفال) بأنّ الحل «ليس بتجنّب الحديث عن الأمور الصادمة بل بفعل ذلك بطريقة تناسب هذه المرحلة العمرية، مدعومة بآراء متخصّصين».


«إلمو» في الكونغرس

انضم ديفيد بيكهام إلى «إلمو» للحديث عن «الإصرار» في نيسان/ أبريل 2008

لا شكّ في أن شعبية شخصيات «شارع سمسم» فتحت عيون صانعي السياسيات والقوانين عليها. على سبيل المثال، وفي خضم تفشي السمنة بين الأطفال عام 2006، حاز البرنامج الكثير من الثناء لتخصيص مساحة وافرة للتطرّق إلى العادات الصحية بهدف تثقيف الأطفال بشأن الغذاء والتمارين الرياضية. حتى أن شخصية «كوكي مونستر» (وحش الكعك ــ «قراقيش» في النسخة المصرية)، قال إنّ تناول الكعك يتمّ «بين الحين والآخر»، شارحاً للأطفال أهمية النظام الغذائي المتوازن. وفي 2009، زارت السيدة الأميركية الأولى آنذاك، ميشيل أوباما، موقع تصوير «شارع سمسم» لتسجيل حلقة عن هذا الموضوع. وفي 2001، صار «إلمو» أوّل دمية تقدم شهادة في الكونغرس الأميركي حول تعليم الموسيقى في المدارس.


ثقافات مختلفة
اتّسعت شهرة «شارع سمسم» وتخطّت حدود الولايات المتّحدة، حتى وصلت إلى أطفال في مناطق نزاع ومخيمات لاجئين، لتخرج من رحمه نسخ خاصة بهذه البقع الجغرافية تناسب ثقافتها وتطرح القضايا التي تهمّها. في ظلّ هذا الواقع، حاول صنّاع البرنامج استخدامه لشرح الأمور الخاصّة بمجتمعاتهم. ففي جنوب أفريقيا مثلاً، قُدّمت شخصية «كامي»، الدمية اليتيمة المصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV)، وفقدت والدتها بعد صراع مع مرض الإيدز. أمّا الجمهور الأفغاني، فتعرّف عن قرب على «زاري» وشقيقها «زيراك» كنموذجين للمساواة بين الجنسين واحترام حقوق النساء.
في وقت لاحق، أبرم منتجو البرنامج شراكات مع منتجين محليّين في العديد من دول العالم، لإنجاز نسخة محلية. في سبيل هذه الغاية، كان المنتجون الجدد يستندون إلى نموذج البرنامج وطريقة البحث والمنهج، ويطوّرون برنامجاً جديداً بأهداف تتناسب مع الوضع في البلاد. عُمّمت التجربة على أماكن عدّة، ليصبح اليوم هناك 30 فريقاً يعمل على تنفيذ نسخ محليّة من «شارع سمسم».