حققت رواية «دكتور سليب» للكاتب ستيفن كينغ نجاحاً كبيراً. نشرها عام ٢٠١٣ كاستمرار لروايته السابقة «البريق» عام ١٩٧٧. وبينما نجح ستانلي كوبرك عام ١٩٨٠ في إخراج فيلم مقتبس عن رواية «البريق» ويحمل اسمها، مقدّماً واحداً من أهم الأفلام وأكثرها رعباً؛ أخرج مايك فلاناغان، الذي اشتهر بأفلام الرعب، فيلم «دكتور سليب» (٢٠١٩) مقتبساً عن الرواية الثانية، فهل كان على قدر التوقعات؟ واجه فلاناغان مهمّة شاقة، بما أن فيلمه هو تكملة لتحفة كوبرك... لم يكن «دكتور سليب» قادراً على فهم أو التعامل مع التفاصيل الدقيقة والغموض والثقل النفسيّ الذي قدمه فيلم «البريق». الفيلم الجديد في أفضل لحظاته هو تتمة عادية للقصة واقتباس تافه لكتاب كينغ. ليست المشكلة في الحبكة، بل في عدم وجود رؤية فنية لفيلم مماثل. مجرّد وقود لآلة تنتج «أفلام رعب» مع بهارات لطيفة وأصوات مزعجة وتأثيرات سينمائية خاصة. كلّما ابتعدنا عن فيلم ستانلي كوبرك، كلّما كان ذلك أفضل للجميع. المقارنة محرجة.
لنتذكر فيلم كوبرك قبل الدخول في فيلم فلاناغان.

«البريق» (١٩٨٠): The Shining
الخوف، شعور مشترك للنفس البشرية. شعور يدفع الإنسان إلى الاعتقاد بوجود خطر قادم، فيبلغ الإحساس بالخوف أعلى درجاته. وفيلم «البريق» للمخرج ستانلي كوبرك، دليلٌ واضح على ذلك. الفيلم مقتبس عن رواية ستيفن كينغ، ولكن كوبرك انحرف عن الخطّ الرئيسيّ للقصة، وجعلها أبعد من فيلم رعب.
جاك تورانس (جاك نيكولسون) مدرّس، يحصل على وظيفة كحارس فندق «أوفرلوك» في جبال كولورادو لمدة ستة أشهر، خلال فصل الشتاء. وتكون هذه الوظيفة بمثابة عزلة، كي ينهي كتابه. ينتقل إلى المكان الجديد بعد انتهاء الموسم وإغلاق أبواب الفندق، مع زوجته ويندي (شيلي دوفال) وابنه داني (داني لويد). ثلاث شخصيات أساسية وعالم مليء بالخوف واللاوعي سيطارد الجميع، ويخرج أسوأ ما في دواخلهم.

ملصق فيلم كوبريك «البريق»

القوة الخارقة في الفيلم (على عكس الرواية) عشوائية إلى حدّ ما. يمرّ الرعب الحقيقيّ عبر جاك الأب الذي يتحوّل تدريجاً إلى مريض نفسي يصل إلى درجة الجنون وانفصام الشخصية. فيلم ممسوك جيداً، يمزج العزلة، وأناقة الفندق، والغموض، والصقيع والأصوات التي تأتي من مكان خالٍ ليحقّق هدفه. الفيلم كناية عن متاهة للعقل، رحلة إلى أعماق اللاوعي والإدراك. كما يُظهر لنا صعوبة التفريق بين الواقع والخيال.
في «البريق»، نرى وجهين لعملة واحدة، ازدواجية مضطربة في شخصية الفيلم الرئيسية؛ جاك الأب والكاتب بمزاجه الصعب، وجاك الذي يمكث دائماً في الفندق مع شرّه المثير. إنه الجانب المظلم الذي سيظهر بسبب العزلة، فيتّهم الأمّ والابن بالوقوف خلف كلّ ما يحدث له ويضطر لمواجهتهما. يذهب كوبرك أبعد من ذلك لصنع الرعب؛ فيأخذ ذاكرة الإنسان التي يمكن أن تعمل ضدّ الشخص نفسه كما حصل مع الأب. أمّا بريق داني، فيأتي للتحذير من شيء فظيع حدث، وقد يتكرّر، فيحاول داني حماية نفسه وحماية والدته، على عكس الأب الذي شهد أيضاً ماضي الغرفة 237 ولم يعِرها اهتماماً، إلا أنه استسلم لقوة الشر في داخله. ورغم تجاهله لها إلّا أنه غارق فيها.
«البريق» فيلم آخر من الأفلام التي لا تتأثر بالوقت. رغم مرور سنين على إنتاجه، يمكن اكتشاف رؤية جديدة له، مع التفاصيل الدقيقة التي تفتح أبواباً جديدة ومعنى مغايراً، وهنا تكمن عظمة هذا النوع من الأفلام. وهنا يعرّفنا كوبرك أن الإرهاب والشر يعيشان بداخلنا. فنحن من اختلق مفهوم الشرّ لنفصله عنّا ونسمو من دونه. نحن من ابتكرنا شخصيات خيالية رمينا عليها تهمة أفعالنا المؤذية. تقتل الحيوانات بفعل الغريزة لأجل غذائها وحماية أنفسها، وتقتل البشر لأنهم يتمتعون بوعي وعاطفة تجعلهم كتلة من الهواجس المثبطة بفعل وتأثير الظروف والمحيط. «البريق» فيلم مخيف بفكرته ورهيب بطرحه.

«دكتور سليب» (٢٠١٩) Doctor Sleep
عقود مرّت منذ أن نجا داني تورانس من فندق «أوفرلوك». داني (إيوان مكريغور)، الصبي الصغير الذي سافر بين ممرات الفندق، هو اليوم شخصٌ عاطل عن العمل، مدمن على الكحول وسريع الغضب. يبحث فقط عن مكان للاستقرار للتغلب على مشاكله التي ترجع إلى صدمة الطفولة وإلى «بريقه» وقدرته النفسية التي تسمح له برؤية الموتى والتواصل معهم. نشأ دان في بلدة صغيرة في نيو هامبشاير وتمكّن من الاستقرار في مأوى صغير يخدم كبار السن. وبفضل «بريقه»، تمكّن من إراحة أولئك الذين هم على شفير الموت، وحصل على لقب «دكتور سليب». يلتقي داني بأبرا (كيليث كوران) وتعرف أنه يشاركها القوة الخارقة نفسها. وستطلب مساعدته في مواجهة روز (ريبيكا فيرغسون) وأتباعها. جنباً إلى جنب مع أبرا، يجب على دان مواجهة مخاوفه أثناء إحياء أشباح الماضي في خضم معركة حياة وموت مع روز.
قام فلاناغان بإخراج الفيلم بطريقة الخيال العلمي الملحمي، وبتعريف الخير والشر منذ البداية وبتوقعات لا مفرّ منها حتى المبارزة الأخيرة. مشكلة الفيلم الأساسية أنه يشرح أكثر من اللازم، إلى درجة تثير السخرية. ينفصم انفصاماً عميقاً بين القصة الجديدة ومشاهد الفيلم الأصلي، ويعتمد بشكل كبير على مجد فيلم كوبرك، لكن من دون الغموض أو الإثارة التي قدمها الفيلم الأول، حتى مع إعادة مشاهد الفيلم الأصلي كقاعة الرقص والغرفة 237... هذه المشاهد الجاهزة استعملها الفيلم بطريقة مبتذلة، كأنّ المخرج يعرف أن الفيلم الجديد بلا مضمون، فأراد إدخال لحظات من تحفة كوبرك فقط ليخدم فيلمه من دون مهارة فنية أو إعطاء استقلالية لشريطه.
أخرج مايك فلاناغان الفيلم بطريقة الخيال العلمي الملحمي


«دكتور سليب» فيلم مطوّل بشكل غير ضروري. فشل فلاناغان في جمع عناصر الفيلمَين، مع بعض الشخصيات والأحداث الجديدة التي لا تعدو أن تكون حشواً يطيل السرد. على رغم وجودها المحبّب على الشاشة، إلا أنّ تدخّلات بعض هذه الشخصيات أتت صبيانية، وهي ليست مسؤوليتها بل مسؤولية فلاناغان الذي لم يضع في فيلمه تشويقاً ولا رعباً ولا تعاطفاً ولا أيّ عنصر من العناصر التي يجب أن تتوافر في فيلم الرعب.
على الرغم من أن إيوان مكريغور قدم أداء مقنعاً لرجل مضطرب يخرج ببطء من الظل، إلا أنه لا يكفي لإنقاذ الفيلم، وفلاناغان لم يعطِه الدعم اللازم في السيناريو المتضعضع. الكيمياء بين الشخصيات غير مقنعة، كعدم اقتناع المخرج نفسه بقدرته على إخراج فيلم رعب مستقل. فيلم كوبرك يطغى على فيلم فلاناغان الذي لم يحاول أن يفعل شيئاً مختلفاً عن عمل كوبرك كأنّه نسي أنه ليس كوبرك.
مع هذا الاضطهاد للفيلم الأصلي؛ جاء «دكتور سليب» من غير رعب أو خوف أو مفاجأة. لم يرتقِ إلى مستوى التوقعات التي أثارها لأنه مبنيّ على رواية لستيفن كينغ وتكملة لتحفة سينمائية لا تُنسى. الفيلم متواضع، يبدأ ببعض الأفكار المثيرة ثم يضيع في متاهة تشبه متاهة الفندق الخضراء.

* The Shining: متوافر على نتفلكس
* Doctor Sleep: ينطلق عرضه الخميس المقبل في الصالات اللبنانية