عمر القطَّان *هذا العام، تضم قائمة الشخصيات الأكثر نفوذاً في مجال الفنون التي تنشرها سنوياً مجلة «آرت ريفيو» المرموقة، مجموعة متنوعة تنحدر من مختلف الثقافات والدول والخلفيات؛ أي إنها قائمة أكثر عولمة من قوائم السنوات الماضية، إذ تعكس الحضور المتزايد للعالم النامي في المحيط الثقافي الدولي.
لكن ما الذي يُعرّف هذه الثقافة المعولمة؟ إذا نظرت إلى العالم العربي، وهي المنطقة التي أُحسنُ معرفتها، وتشترك في الكثير من الأمور مع باقي العالم النامي، ألحظ ظواهر عدة لا تشير إلى تعاظم مشاركة الثقافات المتفرّدة في حوار عالمي واحد، بل تشير ــ بدلاً من ذلك ــ إلى فوضى وصراع وتناقض ثقافي.

هناك بالطبع خلاف في الرأي بشأن وجود هذه الكيانات الثقافية المتفرّدة أصلاً في عالمنا، الذي يمتاز بالتواصل والتشابك، غير أنّ الأمر المؤكد الوحيد أنّ نخبة «كوزموبوليتية»، ناطقة بالإنكليزية تهيمن حالياً على الإنتاج الثقافي في المنطقة بدرجات كان يصعُب تصوّرها قبل عقد من الزمن فقط.
في الجانب الآخر من هذا الطيف، ما زالت غالبية كبيرة من الناس في العالم العربي تتميز بثقافة شديدة المحافظة.
برغم ذلك، تشترك هاتان المجموعتان في الواقع الاقتصادي والسياسي ذاته؛ واقع تستمر فيه الهيمنة العسكرية الغربية، ونخبة معزولة ومنفصلة ومتغطرسة وأكثر تواصلاً مع الغرب في تطلعاتها وطموحاتها من السواد الأعظم من الناس؛ وأسواق مالية (وفنية) يهيمن عليها القطاع الخاص (أو قطاع خاص يلبس ثوب القطاع العام كما هي حال عدد من العائلات الحاكمة في دول الخليج التي تمول المشاريع الثقافية المحلية، لكنها تبقى مهووسة بتقليد المؤسسات والممارسات الغربية)، ومجتمعات ليس فيها أدنى درجات المساواة أو الديمقراطية في توزيعها للأموال العامة على القطاعات الحيوية، بما فيها قطاع الثقافة.
لذا، فإنّ الأسواق المعولمة بالنسبة إلى الكثير من الأمم النامية، ما هي إلا أسواق مستعمَرة بالوكالة.
وحين ننظر إلى هذه الأسواق من وجهة نظر الفئات المهمَّشة أو الواقعة تحت الاحتلال، أو تلك التي تنهكها الحروب الأهلية أو الفقر المدقع، فقد تبدو هجينة بأموالها الطائلة ومظاهرها الفضفاضة، في الوقت التي تقدم فيه فرصاً مهنية ومالية تصعب مقاومتها. وبالفعل، فقد نجحت في إغراء العديد من الفنانين والقيّمين والموهوبين بالسفر بعيداً عن تراب وطنهم، بحثاً عن هذه الفرص في الغرب أو في المراكز الثقافية الجديدة في الخليج، ولو كان الثمن إفساد معتقدات وقناعات لطالما كانت راسخة
لديهم.
من جهة أخرى، فإن هؤلاء المهاجرين الثقافيين قد يجدون في هذه الفرص الجديدة الأمن والحرية اللازمين للقيام بمشاريعهم الإبداعية في مواطنهم الجديدة، التي لطالما عجزوا عن إنتاجها في أوطانهم الأصلية لأسباب سياسية أو اجتماعية أو مادية. إلا أنّ الخطر يكمن في احتمال تعرضهم للابتلاع والذوبان في عالم أصبح فيه التعبير الفني السائد محكوماً بأنماط تشوبها التفاهة، ويحكمها المال السهل والأفكار والاتجاهات المقترضة، واعتبارات التسويق والعلاقات العامة، عوضاً عن النضال من أجل الحرية والمساواة والأصالة والصدق، (وهي مفاهيم، ولله الحمد، ما زالت تعد، عند بعض الفنانين على الأقل، ذات مكانة جوهرية لمساعيهم الإبداعية).
جغرافياً، يعني هذا المنفى بصورة متزايدة قيام المرء بترك وطنه من أجل مراكز ثقافية جديدة في الخليج، وهي عبارة عن مستعمرات غربية بكل ما فيها تقريباً، ما عدا الاسم. هنا، وعلى الرغم من ذلك، فإن الصراعات التقليدية ضد الهيمنة الثقافية الاستعمارية (بين ثقافة محلية «أصيلة»، وثقافة استعمارية قوية) لم تعد قائمة بالشكل ذاته. صحيح أنّ الحركات الإسلامية الأصولية تجادل بخصوص «العودة» إلى التقاليد الأصيلة، لكنها تفعل ذلك في واقع تعمه الأسواق والتكنولوجيات العالمية التي لا هي بالأصيلة ولا بالتقليدية. وبالتالي، فإنه ليس مستغرباً أنه حيثما ضعفت التقاليد الثقافية المحلية القديمة بسبب الهجرة القسرية، أو الحروب، أو الدمار المادي، أصبحت ضجة الهوية الإسلامية ــ أي الايديولوجيا ــ هي الأعلى صوتاً، بما في ذلك بين أبناء الجيل الثاني من المهاجرين في الغرب. على سبيل المثال، برغم أنّ ثقافات الفلاحين كتلك التي كانت سائدة في المناطق الريفية في باكستان، أو الصومال، أو فلسطين أو سوريا، غنية في أصولها، فإنّها لحظة يجري حملها إلى المنفى (عادة عبر آباء أميين من الجيل الأول)، سرعان ما تجد نفسها مهمشة، هذا إذا لم تغرق في ايديولوجيا ثقافية (وبالتالي رمزية وفارغة) مثل «الإسلام»، وهو مجموعة ثرية ومتعددة من المعتقدات لم تكن، حتى العصر الحديث، ثقافة متجانسة واحدة أكثر من كونها ديناً شكّل جزءاً أساسياً من عدد من الثقافات المختلفة تماماً عن بعضها بعضاً. اليوم في بريطانيا مثلاًَ، قلما يعرف المرء عن نفسه بأنه بريطاني باكستاني أو بريطاني بنغالي، وأصبح يستخدم صفة بريطاني مسلم.
إذن، يبدو أنّ العالم الثقافي المعاصر هو أيضاً مكان يجري الخلط فيه بين الايديولوجيا والأصالة الثقافية، أو أنه يجري التلاعب بمعاني الثقافة لأغراض ايديولوجية سلطوية بحتة. سبق أن ذكرت المثال «الإسلامي»، إلا أن مثال إسرائيل ربما يكون أكثر إثارة للاهتمام، ولو كان مدمراً بالقدر ذاته.
تطلّب المشروع الصهيوني المبني على فكرة «عودة» يهود العالم من منفاهم المفترض إلى «أرض الميعاد»، اختراع هوية ثقافية لم تكن موجودة قبل تغلغل الخطاب القومي ـ الصهيوني في الخطاب اليهودي الأوروبي السائد في نهاية القرن التاسع عشر. لم تكن هذه حالة من استغلال للظواهر الثقافية القائمة من أجل دعم مصلحة الدولة القومية المركزية، إنما جرى اختلاق هوية من الصفر أو الاستيلاء عليها من الثقافة الفلسطينية المحلية، أو من ثقافات المهاجرين اليهود إلى «إسرائيل»، ومن ثم «أسرلتها» وتحويلها إلى «مجتمع متخيل» كما وصفتها الصياغة الشهيرة لبنديكت أندرسون. إنّ أمثلة كالفلافل أو الخبز العربي، هي أمثلة سافرة ومهينة بحق الفلسطينيين، الذين يرون بعض أطباقهم الأساسية قد أعيد إنتاجها وترويجها على أنها وصفات إسرائيلية بامتياز، الأمر الذي يزيد الطين بلة فوق كل ما يتعرض له وطنهم من المصادرات الثقافية والمادية الأخرى. النقطة هنا أنّ القوة المحضة قد فازت اليوم على الأصالة التاريخية، ونجحت بالتالي في تهميش قضية مَن الذي اخترع ماذا؟ ومتى؟
يجب على أي ثقافة عالمية حقيقية، مبنية على مبادئ المساواة والاحترام، وتتمتع بفكر جدي وإبداع فني، أن تكون واعية، على أقل تقدير، لصراعات النفوذ والقوة في الثقافة المعولمة السائدة وإلى عدم المساواة في جوهرها، بل إذا أمكن، أن تتكاتف ضدها. وإن لم يعد بالإمكان حتى تصور «الأصالة»، لأن الكثير من ثقافات العالم قد عانت الإبادة الثقافية ــ إذا استعرنا عبارة بيار باولو بازوليني المشؤومة في وصف الآثار المدمرة للرأسمالية على ثقافة الفلاحين الإيطاليين ــ فإنه ينبغي أن نسأل أنفسنا: ما قيمة أي عمل فني إن لم يعبر على أقل تقدير، عن وجهة نظر، أو إذا تنازل عن الدقة التاريخية، أو إذا تاه عن بوصلة القضايا الإنسانية الحقيقية ذات البعد العالمي، أو إن ظلّ حبيس الأيديولوجيات الضيقة ذات الصلة بالهوية، أو حبيس ألاعيب مفاهيمية، أو مواقف شكلية، تماماً كما في الكثير من جوانب الثقافة المعولمة في السنوات
الأخيرة؟
وبالعودة إلى العالم العربي، فربما تبدأ الاضطرابات العميقة التي شهدها في العامين الماضيين، في هز النخب وحثها على الخروج من شرانقها الثقافية، وإجبارها على الانخراط مجدداً مع هموم مواطنيها. قد يحدث هذا أيضاً في مناطق كثيرة أخرى في العالم، التي تشهد بدورها احتجاجات اجتماعية وسياسية. ربما حان الوقت للبحث عن قائمة «قوة ونفوذ» بديلة بأناس يملك عملهم صدى حقيقياً بين فئات الفقراء، والمهمَّشين والخاضعين للقمع. أناس يمكنهم إيجاد بدائل لايديولوجية العنف والهيمنة من خلال عملهم الملهم ليقدموا صوتاً حراً، أصيلاً، وإنسانياً، في حوار ثقافي عالمي يجري على أساس المساواة بين جميع المشاركين فيه، لا على أساس القوة.



* سينمائي وناشط ثقافي ورئيس مجلس أمناء «مؤسسة عبد المحسن القطَّان». نُشر هذا المقال في عدد نوفمبر 2013 من مجلة «آرت ريفيو» ــ الترجمة إلى العربية باسمة تكروري