منذ فترة، أصدر المؤلّف الموسيقي وعازف البيانو اللبناني رامي خليفة (1981) ألبوماً جديداً بعنوان Lost (إنتاج Nagam Records) حوى 13 عملاً، معظمها آلاتيّ وبعضها غنائي. معروفٌ عن خليفة أنه بدأ مسيرته الموسيقية، بعد إنهاء دراسته، بأداء الأعمال الكلاسيكية الخاصة بآلته، وغطّى ريبرتواره جميع الحقبات تقريباً، ومعظم المؤلّفين الكبار الذين كتبوا للبيانو. أول إصدار له، عام 2002، وثّق المرحلة الأولى هذه من مشواره الفنّي، لكنه احتوى أيضاً على محطةٍ أنبأت بالتغيّرات التي قام بها الرجل لاحقاً. إنه تسجيل حيّ لأمسية قدّمها في بيروت (2001) وأدّى فيها أعمالاً لباخ وموزار وبرامز وبروكوفييف ورافيل وأنهاها بارتجالات على البيانو. هذه الأخيرة، وهي غير معهودة في ريستال بيانو كلاسيكي، أوحَت أن خليفة لن يكتفي بالأداء ولا حتى بالكلاسيك. وهكذا حصل. بالمناسبة، مستوى العزف، التقني والأدائي، لم يكن رفيعاً في تلك الأسطوانة. فقد أتى مقبولاً في جزء منه وضعيفاً في جزء آخر من برنامج الأمسية وبالأخص في باخ وموزار، ورامي ربّما أدرك متأخراً أو يعرف الآن، أن هذا التسجيل كان من الأفضل ألّا يصدر، مقارنةً بتسجيلات مرجعية كثيرة، سبقت أسطوانته ولحقتها، لعازفين كبار راحلين أو من الجيل الجديد الفاعل حالياً. لكن يومها، كان يمكنه ترْك الأفكار والمشاريع الخارجة عن هذا السياق، والتركيز على السمع والتمرين، لرفع مستوى الأداء لإنجاز تسجيلات ذات قيمة مستقبلاً، أو ترْك الأداء الكلاسيكي وتوظيف ما اكتسبه من مهارات (تقنية ونظرية) في دراسة البيانو وصفحات الكلاسيك في مجالات أخرى. اختار الدرب الثاني، وأيقن يومها أن لا مجال للعودة. ففي عمره، ونقصد اليوم أو في السنوات الأخيرة، وبعد ابتعاده سنوات عن صرامة العمل في مجال أداء ريبرتوار البيانو (باستثناء المشاركة في بعض أمسيات موسيقى الحُجرَة، على حدّ علمنا، وتسجيل أسطوانة حوَت عملَين من فئة الكونشرتو، الخامس لبركوفييف والوحيد للمؤلف اللبناني عبد الله المصري)، بات من المستحيل تحقيق أيّ إنجاز كبير في هذا المجال. أمّا الخيارات الأخرى، فخاضها كلّها: من الجاز الذي لم يزره إلّا لوقت قصير (صرّح مرّة بأنه تخطّاه سريعاً وبات يبحث مجالات تعبير أخرى)، إلى الموسيقى الحرة والتجريبية، وصولاً إلى مشروعه الإلكترو-كلاسيكي تحت اسم فرقة Aufgang التي يعمل ضمنها مع آخرين في التأليف والتنفيذ. هذا المشروع المشترك، يمشي في مسيرة رامي خليفة بالتوازي مع مشروع آخر، ونقصد الإنتاج الذي يصدر باسمه، وآخره ألبومه Lost الذي يلي ديسكاً مختلفاً جذرياً عنه وعن معظم ما قدّم لغاية اليوم، وهو ألبوم تأليف أوكسترالي، صدر عام 2016 بعنوان Stories وحوى عملَين كبيرَين، يتألف كلّ منهما من حركات عدة، وهما من النوع «الكونشرتَويّ» (concertant) إذا صح التعبير، فالأول للبيانو والأوركسترا، أمّا الثاني فللتشيلّو والأوركسترا. جديده مختلف عن إصداره الكلاسيكي المعاصر الأخير، ويحتوي على 13 عنواناً، فيها عناصر مشتركة، لكنها تقسم إلى ثلاثة أقسام: أغنيات ذات طابع غربي حديث، محطات للبيانو كلاسيكية معاصرة، تأملية على طريقة لودوفيكو إيناودي و/أو تكرارية على طريقة فيليب غلاس، وأخيراً، مقطوعات تكنو وإلكترو-أكوستيك ذات إيقاع نابض. محور الأقسام الثلاثة هو البيانو طبعاً، بين الاستخدام «الطبيعي»، والمجَهَّز أو غير التقليدي (prepared — وضع أغراض على الأوتار لتعديل الصوت، على طريقة جون كايج، أو استخدام الأصابع لهذا الغرض أو للعزف مباشرةً عليها)، وأخيراً، المعالَج إلكترونياً. القسم الثالث هو أمتن ما في الألبوم. فهناك ثلاثة أعمال (Continuum ،Resist Part 2 وBrain Damaged) ـ بصرف النظر عما إذا كنّا من هواة النوع ــ جيدة جداً في فئتها. تنفيذها متقن، بنيتها واضحة ومتينة (وهذا أجمل ما في الموسيقى)، المزج بين الأصوات الإلكترونية (كما اختيار هذه الأصوات) والبيانو (عزف وعزف مضاعف أحياناً — overdubbing)، مُحَوّراً أو من دون معالجات، موفّق جداً. الجمل المكتوبة، التي يضيفها البيانو تباعاً، أيضاً جيدة (نغماً وإيقاعاً أو لاإيقاعاًَ). لنقل إنها خلاصة توظيف خبرة خليفة مع فرقته Aufgang وعلاقته بالبيانو.
أغنيات ذات طابع غربي حديث، ومحطّات للبيانو كلاسيكية معاصرة، ومقطوعات تكنو وإلكترو-أكوستيك

القسم الأضعف، وللمفارقة، تعديل بسيط عليه قد يضعه في المرتبة الأعلى، هو الأغنيات الأربع. فهي عبارة عن كلام باللهجة اللبنانية، مبعثر، غير مقفّى، عادي أو أقل لناحية المعنى (علماً أن المعنى مناسب لجو الألبوم العام، السوداوي إجمالاً)، لكن المشكلة الأكبر هي في أنه لا يتوافق أبداً مع الموسيقى. فـ«موسيقية» (musicality) اللغة العربية لا تتناسب مع هذه الموسيقى. لماذا؟ لا نعرف. لكنها هكذا. ببساطة، هذه المحطات، وبالأخص الأولى (Beautiful Soul) يكفي أن يستبدل اللبناني فيها بالإنكليزي لتصبح عملاً محترماً في فئته (بالاد الروك المستقل، الهادئ عموماً، الذي انتشر في كندا والدول الاسكندينافية منذ التسعينيات أو الثمانينيات). حتى من لا يفهم اللغة العربية ستزعجه هذه الأغنيات. حتى من لا يفهم الإنكليزية سيحبها لو تم هذا الاستبدال. مع الإشارة إلى أن رامي، الذي تولّى صناعة الألبوم بأكمله، يتولّى الغناء في هذه المحطات، فهي غير متطلبة تقنياً (هذه من خصائص هذا اللون الغربي الحديث)، وكل ما تحتاج له هو نبرة جميلة ومخارج حروف سليمة (وهي ليست أفضل ما عند رامي خليفة) وغناءً صحيحاً (وهذه بديهية بالنسبة إلى موسيقيّ محترف). كذلك، ما لا يحتمله الألبوم، هو فائض التفجّع في بعض المحطات، ونقصد الابتهالات والآهات (بالأخص في المحطات الغنائية). فهي كمن يضيف العسل على البقلاوة. هذا النمط الموسيقي الغنائي، وبحكم البلدان التي خرج منها والفترة التي ظهر فيها، ينضح بما يمكن وصفه بـ «الحزن البارد». بالتالي، فإن بعض الإضافات «الحامية» الآتية من الشرق، من شأنها أن تعكّر مزاجه العام.
يستحق هذا الألبوم فرصة سمع بالتأكيد. فيه المزعج وفيه الهادئ وفيه المضطرب. فيه محطات مجهضة وأخرى متينة. إنه رحلة في عالم رامي خليفة، المشتت، السوداوي، وأحياناً الشاعري حتى الإزعاج. رحلةٌ تنتهي، في ختام المقطوعة الصاروخية الأخيرة من الألبوم، «بكبسة زر»، كأن ثقباً أسود سحب الصوت من الفضاء إلى العدم.