أن تؤدّي راقصة رقصتها أمام الناس، في مظاهرة أو كرنفال، فهذا لا يقلّ ألفة عن جسدٍ يعرف من الشارع المشي فيه. حركة مكرّرة. ولدوام تكرارها، تفقد وقع دعساتها كأنها لا تصل. سيتوقّف الجسد نفسه عندما يُضاء اللون الأحمر في الإشارة، وسيغيّر مساره بهدوء لدى ظهور كتلة اسمنتية أمامه. لم يكن ينقصه إلّا كاميرات مراقبة زُرعت فوق الأعمدة وأمام المحلات. لكنه، لسبب ما، ما زال يتصرّف كما لو أنها غير موجودة. يطمئن نفسه بأن أحداً لن يميّز جسده من بين كل الماشين. لا حاجة له للتفكير طويلاً بالاتّجاهات. يعرف منها نقطتي البداية والوصول. الخارطة كأنّما حُفرت في رأسه حفراً. بعد 17 تشرين الأوّل علت أصوات على حنجرته البليدة. ومع هذا ما زال ينكر أن أملاً، ولو كان هشّاً، تمكّن منه في النهاية.
(مروان طحطح)
لم يأته بجناحين أبيضين هائلين، ولم يلمحه في سماء. جاءه من الأسفل. ليس مستغرباً أن يتوجّس منه بعد كل هذا الوقت. من حفظت قدماه الطريق اليسير والواضح، ستخور قواه في الشوارع المفتوحة وأمام مشهد الأقدام الكثيرة التي تتهافت إليها. جسده كأجساد منهكة كثيرة، لم يكن مهيّأ للرقص الذي سبقه إليه كثر في صور وصيدا والنبطيّة وطرابلس والبقاع وأمام مصارف ساحة رياض الصلح. هو رقص مثلهم في السابق، لكنه فعلها في الزوايا المغلقة غالباً. وعندما نزل المتظاهرون إلى الشوارع والطرقات، رقصوا فيها كما لو أنها مساحتهم الأكثر أماناً. استعادوه بأداء مشترك في المساحات المسلوبة التي استحالت مسرحهم حين رقصوا في الأملاك العامّة المنهوبة في خليج الزيتونة ووسط البلد، وفي المناطق والأرياف التي ظلّت لسنوات تخضع لسلطة الأحزاب السياسية والدينية. اختبرت الأجساد وابتكرت مفهوماً سياسياً تشاركياً للفضاء العامّ أكان في الرقصات الجماعية كالدبكة، أو في الرقصات الفردية. الجسد يصدّق أخيراً قدرته على القيام بشيء ما. يتسابق مع نفسه. يرقص لأن الرقص هو شعور فائض بقدرة جسده على الفعل، وهو احتفال تلقائي باكتشاف هذه القدرة في آن واحد.

فعل سياسي
الفارق بين الحرية الفلسفية والحرية السياسية، وفق حنة أرندت، يتمثّل في اللحظة التي تتفلّت فيها الحريّة من الشعور الداخلي، لتصل إلى التعبير والفعل العلنيين في الفضاء العام. مثل اللغة، يستفيض الجسد بالقول والتعبير، لكن عبر الحركة. في باريس الثورة الطلابية عام 1968، اختبر الطلاب ما أسمته المفكرّة والمنظّرة السياسية الألمانية «طيش الفعل السياسي»، أو «عمومية السعادة» التي تتمثّل في شعور المتظاهرين بالسعادة لقدرتهم على القيام معاً بفعل عفوي يكون مقروناً ببداية جديدة. وإن كان الرقص ناتجاً من يأس أو غضب، فإنه يصبح احتفالاً بأمل البدايات بصرف النظر عمّا إذا كان هذا الأمل مؤكّداً أو مضموناً أو حتى موجّهاً. تشبّه أرندت لحظويّة الفعل السياسي بأداء «الراقص أو الممثّل الذي تظهر نتيجة أدائه أثناء فترة العرض نفسه»، حيث تتبدد النتيجة ما إن تنتهي الرقصة أو الأداء الذي يعيد تعريف الفضاء العام. مع بداية الانتفاضة في المناطق اللبنانية، استعاد المتظاهرون دوراً من أدوار المدينة والمناطق من الشمال إلى الجنوب، كفضاء للفعل السياسي، شأنها شأن الجسد الذي تحرّك بعيداً عن السلطات الماديّة والمعنوية التي تسوّره في إقامته وتنقّله.

(مروان طحطح)

بالإضافة إلى النقاشات العامّة خارج الجدران ووسائل الإعلام، انجرفت الأجساد تلقائيّاً مع ممارسات أكثر تفلّتاً من اللغة، ومن الخطاب العقلاني على السواء، ومن ضرورة القيام بوظيفة محدّدة. انقادت إلى لحظة الطيش فحسب. «إذا لم أستطع الرقص، فهي ليست ثورتي» يُنسب هذا القول إلى المفكرة والمنظّرة الأناركية إيما غولدمان، في إشارتها إلى الدور السياسي للرقص. في عزّ فترة الكساد الكبير في أميركا الثلاثينيات، شكّل راقصو نيويورك «اتحاد عمّال الرقص». انطلاقاً من خلفيته الماركسيّة، دشّن الاتحاد بين 1932 حتى 1935، حركة يسارية دعت العمّال إلى عالم الرقص دعماً لهويتهم البروليتاريّة تحت شعار «الرقص هو سلاح في الصراع الطبقي الثوري»، حيث التعبير الجسدي كان كلّ ما يملكه هؤلاء في وجه أرباب العمل. يبدّد الرقص الخوف بمنحه الراقصين شعوراً جامحاً وملحاً بأنفسهم، للتصدي لممارسات السلطة العنيفة تجاه الأجساد، من خلال الضرب والاعتقال وإطلاقها الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع. هكذا واجه المواطنون الأصليون في جنوب أفريقيا جدران الأبرتهايد برقصة تويي ــــــ تويي (Toyi-toyi) التي كانت ملاذهم في حالات الاضطهاد والاحتفال على السواء. هذه الرقصة الجماعية التي تؤدّى على وقع الشعارات والأغنيات السياسية، درجت منتصف السبعينيات، تحديداً بعد مجزرة سويتو التي قتل فيها حوالى 700 متظاهر من طلاب المدارس. لم يتراجع المتظاهرون بعد المجزرة.

(هيثم الموسوي)

حين هدّدت الشرطة بأن الموت سيكون مصير كلّ من يواجهها، عاد المتظاهرون لا لمواجهة الشرطة فحسب، بل لتغيير مصير الجسد الميت، باعثين فيه الحركة من خلال الرقص. المشاهد نفسها تتكرّر في فلسطين يوميّاً. أبقاها تلك التي وصلتنا السنة الماضية من إحدى المسيرات في معبر رفح في غزة. قبالة رصاص القناص الإسرائيلي، ودخان الغاز المسيل للدموع، خرجت مجموعة من الشابات والشبان ودبكوا منفردين على الأغنية الشعبية «يا ظريف الطول»، متسلّحين فقط بحركة أجسادهم في ساحة الحرب. كلّما أصابنا الحنين، عدنا تلقائياً إلى تحرير جنوب لبنان عام 2000. إلى رقصات النساء وحلقات الدبكة المحليّة، التي كانت الحركة البديهية الأولى لملاقاة الأرض التي لم يكن قد مضى على تحريرها بضع ساعات.
واجه المواطنون الأصليون في جنوب أفريقيا جدران الأبرتهايد برقصة Toyi-toyi التي كانت ملاذهم في حالات الاضطهاد والاحتفال على السواء

أخيراً، وفي بيروت، لا صلة واضحة بين من أشعلوا الطرقات وكسروا واجهات المحلات والمصارف في الأيام الأولى للانتفاضة، وبين من رقصوا فيها ذات ليلة في موقف اللعازرية، إلا إذا اعتبرنا أن أعمال الشغب هي رقصات أخرى، لكن إيماءاتها أكثر عنفاً من حركة تخرج على وقع الموسيقى. حين شاغبوا أشعلوا ناراً، وأشعلوها مجدداً حين رقصوا حولها طوال الليل. كانت صدور البعض عارية، بينهم من حط قناعاً، فيما أبقى الآخرون على وجوههم. لم يحدث هذا من قبل، هنا، في وسط المدينة الذي استمات رجال أثرياء مع ربطات عنقهم، كي لا يتحوّل إلى سوق أبو رخوصة. أي لئلّا يبقى فيه شيء بالمجان حرصاً عليه من أي طابع شعبي قد يصيبه. في تلك الليلة، رقص الشبان على أغنيات شعبية وعاطفيّة منها أغنية تقول «حطوا فرودهن عجنابهن ونزلوا على البريّة». لم يكونوا يحملون بنادق ولا مسدّسات، لكنهم أتوا بتلقائية ومجّانية الحركة البرّية إلى مساحة تختنق بالأبنية والمحلات التجارية.

من الهامش إلى النموذج
لأن خيالنا بائس، لا نتوقّع من الأجساد الكهلة إلا أفعالاً قليلة. أن تكون مستلقية، أن تمشي ببطء، وأن تشكو دائماً من أوجاعها. لا ننتظر منها أكثر من ذلك. الشاشات تستميلها هذه الصورة أيضاً، آخرها بكاء رجل في ساحة رياض الصلح أمام الكاميرا قبل ما يقارب الأسبوع من الانتفاضة التي نسفت صورة الكهولة المألوفة. أكثر فيديوهات الرقص التي لاقت رواجاً في المظاهرات هي لنساء ورجال متقدمين في العمر. رقصهم المنفرد وسط حلقات دائرية هو الذي كان يجرّ الأجساد الشابّة للالتحاق بها، لا العكس. هذا ما فعله رجل عجوز كان يضع طربوشاً أحمر في واحدة من المظاهرات. أخذ الرجل على عاتقه أن يبدأ الرقص أولاً، قبل أن يرافقه أحد الشباب المتظاهرين.

(مروان طحطح)

قام العجائز بثورتهم على تصوّرنا عنهم أيضاً. صار الجسد الكهل هو النموذج البديل عن قوّة واكتمال الجسد الشاب، والتوق الدائم للعودة إليه. ما فاتنا أن التعب، إن أراد أن يصنع معجزة، فهو يصنعها مضاعفة، ويبعث كذلك على فرح مضاعف. في مظاهرات كفررمان، رقصت امرأة ورجل بينما تحلّق حولهما الناس، أغلبهم من الشبان والشابات. خلع الرجل قبعته فبان شعره الأبيض. قبالته فتحت المرأة يديها على اتساعهما. بدت كأنها تدعو شيئاً يفوقها حجماً. خفّة غامرة. خلعت المنديل عن رأسها، ولوّحت به. تراجع الرجل قليلاً ثمّ عاد ليخلع قبعته مجدداً، مقلّداً إيماءاتها. انتصرت المرأة على أزمان كثيرة، منها الزمن الجسدي حيث تخطّت تعبها وسنواتها ببضع حركات وإيماءات. يضاف إليه، زمن حتمي آخر هو الحزن. عندما لوّحت المرأة بمنديلها، فإنها بدّلت سياق وسبب هذه الحركة التي ترتبط بذاكرتنا المحليّة بلحظات الحزن والتفجّع في حالات الموت حين تمزّق النسوة ثيابهن. ولأن خيالنا بائس، سنظل نعيد مشهد رقصة المرأة في كفررمان، لكي نتأكّد أن هناك ما لا يزال حياً في أجسادنا.