يصنع هانيبال سروجي لوحته من عناصر حلمية متشظية. إنها انطباعات ذاتية عن أفكار وتصورات يجري نقلها إلى المتلقي بأداء لوني متقشّف وخافت. كأن مهمة الرسام اللبناني أن يُخفي الأصل الواقعي لهذه العناصر التي تتألف من لطخات وتبقيعات ونقاط وخطوط صغيرة ومتقطعة. كأن اللوحة تُظهر بقايا وأطلالاً باهتة من صورة لا نستطيع الاهتداء إليها.
مناخاتٌ مثل هذه حضرت في معارضه السابقة بكثافة، وما نراه في معرضه الجديد «صعود بين السَّحاب» في «غاليري جانين ربيز» هو نسخ جديدة ومنقّحة من هذه المناخات. هناك لوحات من سلسلة «بحر – يابسة» التي رأينا بعضها من قبل، حيث يرسم الفنان سماءً في أعلى اللوحة، بينما تبدو مويجات بحرية زرقاء في طريقها إلى التبدد والتلاشي في أسفل اللوحة. الأزرق الخفيف والسديمي الباهت متناظران وفق هندسة واضحة، لكن ذلك قد يكون وهماً أو خديعة بصرية تخفي ممارسات أو طموحات أخرى، أو لعلها تمزج الوهم والطموحات معاً. الفنان الذي اضطرته الحرب الأهلية إلى الهجرة، ودرس الرسم والسوسيولوجيا في مونتريال وباريس، يضع وعيه لطفولته ونشأته في بيروت وصيدا في تقنيات لوحته. نقرأ اللوحة كتأويل لنثريات الأمكنة والذاكرة والهوية البصرية الأولى. التأويلات ذاتها هي حصيلة تأملات متأنية وبطيئة. التأملات تجعل اللوحات صامتة ومكتومة. كأنها تتحدث مع نفسها أكثر من تواصلها مع المتلقي. إنها تبدأ من نقطة أو لطخة صغيرة تستدعي بدورها لطخات ونقاطاً أخرى، بينما تساعد تقنية الحرق على خلق محيط غير منتظم لمساحة اللوحة، إضافة إلى الثقوب التي يُحدثها الحرق، وتتجاور مع اللطخات ويصعب التمييز بينهما.
التقنية ذاتها تنتقل إلى أعمال جديدة بقياسات أصغر، لكنها موضوعة داخل مكعبات وأوعية زجاجية، ومضاءة بنيونات رفيعة ملونة. هناك روح تجهيزية في هذه الأعمال التي تتكرر فيها البقع واللطخات وثُغر الحروق الصغيرة. المساحات بيضوية وإهليلجية غير محددة بدقة. حافات الأشكال المحددة بالسواد الناجم عن الحرق تجعلها أشبه بخرائط لعوالم وأمكنة وبيئات جغرافية وتضاريس. الخطوط والمشحات اللونية ترسم ظلالاً باهتة لمشاهد من الطبيعة والبحر والريف. مشاهد لا يرغب سروجي في إيضاحها أو جعلها مكتملة. إنه مكتفٍ بلعبة النور والظل بأقل كثافة ممكنة، وبأقل تعارضٍ أيضاً. هناك مذاق تجريدي في هذه اللعبة اللونية الخافتة والمكتومة. التجريد ذائبٌ داخل الانطباع العام الذي تبثّه اللوحات المتحفّظة في إظهار أسرارها وربما جروحها ونُدبها. يقول سروجي إن النيون مجلوب من ذاكرته ومن ذاكرة بيروت وشوارعها ومحالّها ولافتاتها المشعة والمزدهرة في عصرها الذهبي الذي كان شاهداً عليه في شبابه المبكر. هناك نوع من الحنين الممزوج بفكرة المرئي والمحجوب، والحقيقي والمتخيّل، في هذه الذاكرة. كأن الفنان ولوحته عالقان هناك، بينما البقع واللطخات هي بقايا وآثار ذلك الزمن المُمتدح. اللافت أن هذه الخلاصات وجدت هوية أخرى لها بين الممارسات الفنية المعاصرة في الغرب. هناك وجد الفنان متسعاً لعرض مقتنيات ذاكرته الأصلية بوصفها تقنيات منفصلة عن آلام وجروح هذه الذاكرة. عموماً، يصعب القبض على شيء محدد في لوحات هانيبال سروجي، الذي عرض أعماله في الخارج قبل عودته إلى لبنان. يتراءى لنا بحرٌ وطبيعة صامتة وسماوات مفتوحة وتضاريس أرضية، لكن ذلك كله يظل مجرّد تخمين أو حدس، بينما الفنان نفسه لا يمنحنا طمأنينة الوصف والاستنتاج. في بعض اللوحات الصغيرة، تبدو الأشكال الدائرية مثل كواكب منظورة من بعيد، وتبدو المشحات اللونية التي تحجب جزءاً منه أشبه بسحب وغيوم كونية تبقّع الجزء المرئي منها. نضيف ذلك إلى مناخات التجريد والتقشف، حيث اللوحات تدمدم مع نفسها، والفنان يقف وحيداً على أطلال ذاكرته.

«صعود بين السَّحاب»: حتى 19 آذار (مارس) الحالي «غاليري جانين ربيز» (الروشة). 01/868290

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza