في خطوة هي الأولى من نوعها بالنسبة إلى الشبكة الأميركية الرائدة في مجال الـ «ستريمينغ»، أعلنت «نتفليكس» الشهر الماضي استحواذها على «سينما باريس» في حي مانهاتن في نيويورك بموجب عقد إيجار لمدّة عشر سنوات. هكذا، ستصبح «سينما باريس» الأيقونية حضناً لعروض أعمال «نتفليكس» الأصلية وغيرها من الفعاليات. «سينما باريس» ذات الشاشة الواحدة والـ 581 مقعداً، افتُتحت في عام 1948، وتحوّلت مع الوقت إلى إحدى أبرز دور العرض في البلاد، قبل أن تُغلق أبوابها في أواخر آب (أغسطس) الماضي. أبرمت «نتفليكس» هذه الصفقة بعدما كانت وسائل إعلام أجنبية قد تداولت في نيسان (أبريل) الماضي أنباءً حول محادثات تجريها الشركة التي أبصرت النور عام 1997 لشراء «المسرح المصري»، وهي دار العرض السينمائية التاريخية في قلب هوليوود. علماً بأنّ المفاوضات لا تزال مستمرّة، في ظلّ أحاديث في الكواليس عن أنّ نيّة شراء هذا الفضاء العريق في لوس أنجليس لا تزال موجودة. لكن ما الذي يدفع الشبكة إلى خوض هذه التجربة، وهي التي كانت من أولى المنصات التي غيّرت قواعد المشاهدة ووضعت في متناول الناس مكتبة هائلة من المواد الترفيهية المصوّرة بمجرّد كبسة زرّ، كما شكّلت منافساً أساسياً لهوليوود، واتّهمت بأنّها «تهدّد» التجربة السينمائية الكلاسيكية المكرّسة منذ عقود؟
تحتضن «سينما باريس» عروضاً محدودة لفيلم Marriage Story

«برأيي، من المرجّح أن يكون السبب أنّه رغم أنّ «نتفليكس» تعدّ من عمالقة البثّ عبر الإنترنت، إلا أنّها في الحقيقة «سمكة صغيرة» مقارنة بمنافسين كـ «ديزني» و«أمازون»...»، يقول ماتياس فري، بروفيسور السينما والإعلام والثقافة في «جامعة كنت»، في حديث إلى موقع «وايرد». ويضيف: «ربّما يكون الأمر بالون اختبار تمهيداً لشراء سلسلة سينمات والتحوّل إلى لاعب أساسي في هذا الملعب. أعتقد أنّه احتمال ضعيف لكنّه ممكن».
سلاسل صالات العرض قد تعتبر أنّ الموضوع هو ردّ على العلاقة المشحونة التي تربط شبكة «الستريمينغ» الشهيرة بعدد من السينمات البارزة في البلاد، فيما قد يذهب بعضهم أبعد من ذلك. بول هاردارت، مدير الترفيه والإعلام والتكنولوجيا في كلية «ستيرن» للأعمال التابعة لـ«جامعة نيويورك»، يؤكد أنّه «لفترة طويلة، قالت (نتفليكس) إنّها تريد الناس أن يشاهدوا المحتوى أينما وكيفما يريدون».
لكن في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، تأزّمت الأوضاع بين الطرفَيْن بسبب فيلم مارتن سكورسيزي الجديد «الإيرلندي» (210 د). أما السبب، فهو رفض «نتفليكس» إصرار الصالات التي اشترطت 72 يوماً من العروض الحصرية قبل الإطلاق عبر منصة الـ«ستريمينغ» للمشتركين، في مقابل موافقة الشبكة على 26 يوماً فقط.
قبل أن يصبح The Irishman متاحاً للبث عبر الإنترنت، عرضته نتفليكس في مسرح «برودواي»، الذي لا يعتبر سينما من الناحية التقنية، ما يظهر إلى أي مدى الشركة مستعدة للذهاب في سبيل تجاوز اللاعبين الرئيسيين!
في هذا السياق، يرى فري أنّ ما حسم المسألة أخيراً هو كلام سكورسيزي عن أنّ فيلمه «يجب أن يشاهد في صالات السينما، إلى جانب تمنّيه على الناس عدم اللجوء إلى هواتفهم المحمولة لفعل ذلك». هنا، «قال القائمون على المنصة لأنفسهم: لماذا يجب أن نقضي شهوراً في هذه المفاوضات عندما يمكننا لعب ورقة الشراء أو الاستثمار؟».
تجدر الإشارة إلى أنّ «نتفليكس» خفّفت من تشدّدها المتمثّل في الإصرار على إطلاق أفلامها في السينما تزامناً مع عرضها عبر منصّتها، وهو ما أوقعها في مشاكل عدّة من بينها منع إنتاجاتها من المشاركة في المسابقة الرسمية لـ«مهرجان كان السينمائي الدولي». ففي العام الماضي، أصدرت شرائط «روما» (إخراج ألفونسو كوارون)، وBallad of Buster Scruggs (إخراج الأخوين كوين)، و«بيرد بوكس» (إخراج سوزان باير)، و«ماوغلي» (إخراج آندي سيركيس)، في عدد محدود من الصالات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قبل توافرها لأصحاب الاشتراكات المدفوعة. وفي هذا العام، كشفت «نتفليكس» أنّ عشرة من أفلامها ستُخصَّص بعروض حصرية محدودة في دور السينما قبل الوصول إلى منصة الـ«سترمينيغ».
برأي نيومان، «تعدّ هذه الأفلام دعاية لجذب المشتركين أكثر من كونها مشاريع نجاح في شباك التذاكر. سبق لـ «نتفليكس» أن حصلت على فرصة لشراء مسارح «لاندمارك» ذائعة الصيت، لكنّها لم تقترب حتى من تقديم عرض شراء». ويشدد الأكاديمي الأميركي على أنّ الاهتمام بـ «سينما باريس» و«المسرح المصري» عائد إلى سبب جوهري: الأوسكار! من الأجل المشاركة في سباق الجوائز الأبرز في عالم الفن السابع، يتعيّن على «نتفليكس» عرض أفلامها في نيويورك ولوس أنجليس في صالة واحدة لمدّة أسبوع. وفي سبيل هذه الغاية، كانت الشبكة تعمد إلى استئجار فضاءات لا تقع ضمن خانة السينمات أصلاً.
يعتقد بول هاردارت أنّ امتلاك دور السينما أمر جيّد للمستهلكين و«نتفليكس» على حدّ سواء: «يمكنك أن تتخيل إذا كنت تعيش في نيويورك، ستتم دعوتك إلى العروض والنقاشات المرتبطة بها. من جهة، يحقق أصحاب الصالات السينمائية بعض المكاسب، وإلى حدّ ما، تتعرف «نتفليكس» من جهة أخرى إلى أهمية التجربة السينمائية التقليدية. أعتقد أنّه أمر جيّد لمحبّي الأفلام ولصانعي السينما أيضاً».
من جهتها، ترى صحيفة «غارديان» البريطانية أنّ استحواذ «نتفليكس» على «سينما باريس» (تحتضن عروضاً محدودة لفيلم Marriage Story لنوح باومباخ) سيساعد في استمالة أبرز المخرجين التواقين إلى سحر ليالي الافتتاح وغير المستعدّين للتنازل عنها ولو كان الثمن التخلّي عن ميزانيات إنتاج ضخمة.