مراكش | صحيح أنّ «سيد المجهول» لعلاء الدين الجم خرج من المسابقة الرسمية لـ «المهرجان الدولي للفيلم بمراكش» الأخير بخفي حنين، إلا أنّ الشريط المغربي الذي كان قد شارك أيضاً في «أسبوع النقاد» في «مهرجان كان السينمائي»، يستحّق التوقّف عنده. في باكورته الروائية الطويلة، قدم السينمائي الشاب فكاهة درامية عبثية لم تجعلنا نضحك فحسب، بل أيضاً نفكر ولو قليلاً في الواقع القاسي الذي يحيط بالمنطقة الصحراوية جنوب المغرب. فكاهة تضع أمامنا حيوات بشر يعيشون على المعتقدات والخرافات الدينية والاجتماعية. يبدأ الفيلم بطريقة فكاهية مثيرة. في وسط الصحراء الخالية، يهرب اللص (يونس بواب) بسيارته من الشرطة، إلى أن يتوقف كلياً. عندما يتّضح له أن لا مجال للهرب، يقرّر دفن مسروقاته، وهي حقيبة مملوءة بالمال، على تلة قريبة. دفنها على شكل قبر صغير يحوي جثة. أُلقي القبض عليه، وبعد سنوات يخرج من السجن، فيذهب إلى المكان نفسه الذي دفن فيه كنزه، ليكتشف أنّ ضريحاً لولي (سيد المجهول) قد ارتفع حول القبر، وأصبح ملاذاً دينياً لسكّان قرية بُنيت خلف التلة. هكذا، يجد اللص نفسه مجبراً على الاستقرار في القرية والعيش مع سكانها من دون إغفال مهمته الرئيسية: استرداد الأموال من القبر. انطلاقاً من هذه القصة، تشعّب علاء الدين، ليقدّم لنا قصصاً ثانوية أخرى تحدث في هذه القرية الصغيرة. في المبدأ، قصة الفيلم مثيرة، على الرغم من أن بعضهم شبّهها بقصة فيلم «الزفت» (1984) للمسرحي المغربي الكبير الراحل الطيب الصديقي. ولكن لا أحبذ هذا التشبيه، على الرغم من أن القصتين متشابهتان في الخطوط العريضة، لكن المبدأين وطريقة السرد مختلفان كلياً.
إذاً، الفرضية التي قدمها علاء الدين تتمحور حول ضريح «ولي» مجهول في وسط الصحراء لديه متابعون كثر، يحجون إليه ويطلبون منه المعجزات والشفاء، على الرغم من أن ما هو مدفون ليس إلا حقيبة مليئة بالمسروقات. ورغم أنّهم لا يعرفون اسم المدفون لأنه غير موجود، إلا أنهم أطلقوا عليه اسم «سيد المجهول». هذه المهزلة بخصوصيتها الفكرية والدينية والتراثية، تعزز التفكير في مجتمعات البشر التي تبحث دائماً عن أسطورة دينية تخلقها لنفسها وتصدق بعد ذلك هذه الكذبة، بل تمجّدها وتبجّلها. علاء الدين لم يكن مهتماً تماماً بمن قرر بناء الضريح ولماذا، وكيف وصل الأمر إلى هذا الحد. هو مهتم بالحالة ذاتها، بالساكنين في القرية، وأهمية الضريح بالنسبة إليهم، وطريقة عيشهم وحياتهم التي قدمها بطريقة هزلية. على الرغم من قصة الفيلم التي تدعو إلى التفكير والتأمّل طويلاً، إلا أن علاء الدين الجم قرّر مقاربتها بهجاء وسخرية عن الإنسان والدين. هو سخر تحديداً من الذين يستخدمون الدين لتعزيز الخرافات والإفادة منها. من هنا بدأ المخرج المغربي بهذه الفكرة الضخمة ثم راح يصغّرها شيئاً فشيئاً.
للوهلة الأولى، كان تأثير القصة كبيراً. إذ كيف لمخرج عربي من بلد عربي إسلامي أن يقدم فيلماً مماثلاً؟ يمكن بسهولة أن يتعرّض للكثير من النقد والهجوم الشخصي. هذا التأثير بدأ يتلاشى مع بدء أحداث الفيلم في القرية، والتعرّف إلى الشخصيات والسكان والقصص الثانوية. ضاع علاء الدين وضيّعنا معه بين الجد والمزح، وبين الدراما والكوميديا. بدأ بالقفز من قصة إلى أخرى، من نواة اجتماعية إلى نواة فكاهية إلى نواة ميلودرامية. قصة حساسة لولي مجهول يمكن أن تقدم بطريقة غنية اجتماعية ودينية، إلّا أن علاء قرر الذهاب إلى طريق آمن عبر تقديم الفيلم بطريقة كوميدية.
فكاهة درامية عبثية تدور أحداثها في منطقة صحراوية في المغرب


الكوميديا في السينما ليست بالشيء السهل، لأنّ وراءها دوماً فكرة جدية غنية. كوميديا علاء الدين جاءت بلون الصحراء، وريحها الناشف. بطريقة طفولية، طرح فيلمه، بمشاهد تكررت وقصص ثانوية طغت على فكرة الفيلم الرئيسية وقدِّمت بطريقة أفضل من الفكرة الأساس كقصة الطبيب أو قصة الفلاح الذي ينتظر المطر، والتي لا يمكننا الدخول فيها لعدم إفساد الفيلم. في بعض الأحيان، ننسى البطل الرئيسي والقصة. نغوص في القصص الثانية، ونتمنّى لو أن الفيلم هو عنها في الأساس.
أضحكنا علاء الدين، جعلنا نفكر لدقائق ثم ذهب بنا إلى الكوميديا غير المبرّرة في بعض الأحيان. ذهبت قصة الولي والدين ليحلّ محلها حياة الذين يعيشون في القرية، وهذا ما أنجح الفيلم بطريقة ما. هذه العبثية والبساطة التي يعيشون فيها، كانت مثيرة للاهتمام أكثر من قصة الضريح وكيفية استخراج الأموال. تسعون دقيقة كانت كافية لعلاء الدين الجم، لتقديم فيلم ذي قصة مثيرة، تتشعب منها أفكار عن الإيمان والأخلاق والشجاعة والدين والصلاة والخرافات والأساطير الدينية وحياة البشر البعيدين عن الحضارة الذين أسقطتهم الدولة من حساباتها. إلا أن علاء الدين اهتم للأسف بالنكات واستدرار الابتسامات أكثر من أي شيء آخر.

في النهاية وعنها
بدأت نهاية فيلم علاء الدين بطريقة كرتونية، ثم بعد ذلك رجع إلى القصة الأولى. ضريح جديد «لولي جديد» قرّر شخص بناءه وأصبح مزاراً للبشر، والدولة شقت طريقاً إليه. وضعنا علاء في نهاية جدلية. أنهى فيلمه بفكرة عظيمة كالبداية تماماً، لكن في النصف جاء كل شيء شبه فارغ، يحتوي فقط على قصص وشخصيات تصلح لتكون فيلماً كوميدياً ممتازاً. تاه علاء الدين. بدأ بطريقة جيدة ثم قرّر وضع كل شيء فوق بعضه وضيّع عليه فكرة عظيمة لو نُفِّذت بطريقة أخرى، لكانت النتيجة فيلماً نقدياً لطالما تقنا إلى مشاهدة مثله في السينما العربية الجديدة.