ضمن سلسلتها المعنونة «دراسات فكريّة»، أصدرت «جامعة الكوفة» أخيراً واحداً من الكتب اللافتة، وهو آخر أعمال القاص العراقيّ الرائد محمّد خضيّر «تاريخ زقاق: مقالات في مئوية السرد العراقي». يعدّ الكتاب منجزاً بحثيّاً كبيراً يعتني بالسرد العراقي الذي يحتفي خضير بمئويته عبر دراسة تاريخه الطويل، وقد قسّم كتابه إلى ثلاث مراحل أساسية هي: مرحلة النشوء (1920-1945) ومرحلة الصعود (1945-1979)، ومرحلة الانحدار والضمور (1980-1991). مقالات تستعيد عدداً ضخماً من التجارب القصصية والروائية بعضها لم ينَل ما يستحق من عناية النقد والأضواء لأسباب متعدّدة.أكثر من عامل أسهم في أهمية الكتاب، أوّلها أنه يأتي في ظلّ ركود نقدي واسع في المشهد الثقافي العراقي بات ظاهرة بارزة يشكو منها الكتّاب في أحاديثهم. على الرغم من المهرجانات النقدية المتخصّصة وجلسات اتّحاد الأدباء وندوات الجامعات، فإنّ النقد العراقي لا يزال غير قادر على الإحاطة التامة بالنصوص الجديدة وإظهار خواصها ومتابعة جديد ظواهرها، كما أن المشاريع الأنطولوجية ظلّت تعاني من سوء إدارة واعتراضات ومشاكل تتعلق بمزاجية الإعداد، ما جعلها بعيدة عن موضوعية الدرس النقدي. يضاف إلى الأسباب السابقة أن «تاريخ زقاق» يأتي بقلم كاتب استثنائي رائد عُرف بمتابعته الدقيقة للمشهد السردي العراقيّ أولاً بأول وخلفيته المعرفية وتمكّنه من مراحل السرد العراقي المتعددة، وهذا ما يتبينه القارئ حين يتصفح الكتاب، حيث يتابع خضيّر متغيرات السرد العراقيّ وظواهره متابعاً تحوّلاته وتنوّع طرائق التعبير فيه وتعدد الأساليب، ثم يُلقي نظرة فاحصة على الأنواع القصصية الجديدة بعد اجتيازها نهاية القرن نحو «الشروق الثاني» خلال الفترة من احتلال العراق (2003) حتى اليوم.

يلاحق محمد خضير بدأب الأسماء السرديّة بمراجعات مستفيضة يستعرض فيها مهاراتهم وخصائصهم الكتابيّة (محمد حاذور)

يقول المؤلف عن الكتاب: «سيكشف هذا التاريخ عن نصوص ظلّت بعيدة عن الأنظار، كتبها «جيل الأخطار»، من أولئك الروّاد الذين لم يُتح لهم كتابة غير عدد قليل من القصص قبل أن تسحقهم عجلات «المراقبة والعقاب» وتطمر آثارهم. وقد خلفت أولئك أجيالٌ عانت الإهمال والجحود والمراقبة نفسها. وبين أيدينا اليوم أرشيف ضخم من التجارب القصصية والروائية غزير بالتحوّل والتنوّع في رؤى الكتابة الجديدة». ويضيف: «تنطوي مقالات هذا الكتاب على احتمالات استباقية، وافتراضات أوليّة، وتطبيقات نقدية على عدد قليل من السّرود؛ لكنها تلتجئ أخيراً إلى المواقع السردية الراسخة، وتحتمي بصفحات أنطولوجيات الأوّلين والآخرين، الناجزة أو المؤجلة. فعسى أن يثمر هذا الجهد الضئيل استجابات مستقبلية أوسع مدى وأشمل عطاء».
الكتاب (278 صفحة من القطع المتوسط) الذي صمّم غلافه الفنان بلاسم محمد، يبدأ بالإشارة إلى أن مرور مئة عام على الأدب العراقي يستوجب على النقاد والمتابعين الالتفات لتصفيته وتنقيته من صدأ السنين، وتعاقب الصدمات السياسية، وساعات التمزق والحيرة والتساؤل، ويمرّ على نزعات تاريخ الأدب العراقي مقسّماً إياها إلى تحقيبية وأيديولوجية، اللتين أقصتا بطبيعتهما المعيارية الأصوات الفردية والخصوصيات النوعية، فضلاً عن المؤثرات المتداخلة عبر النوع والزمان. يقول خضير: «ما يبدو على النزعتين من تضادّ مرجعيّ، إنّما يقوم على تعاضدهما في إغفال الطفرات الأدبية في المسار المحقّب، أو المسار المؤدلج، وتسفيه الخصائص الأدبية اللا مصنفة».
خصّ الرواية النسويّة العراقية ما بعد 2003 بملاحظات وتابع ثلاثة أسماء بارزة فيها هي: عالية ممدوح، ولطفية الدليمي ودنى غالي


ويعرج المؤلف على سنوات الهجرة الأدبية إلى خارج البلاد وما فرضته من تحول من كتابة القصة إلى الرواية وبروز جيل جديد تحت سماء غريبة يحرث أرضه في مناخ جديد بلا وصايات من البلاد التي وقعت في قبضة الحروب والاستبداد ليطلق سؤاله: «ماذا يجدينا استرداد مئة عام من نصوص الأدب العراقي؟» حيث ستكون فصول الكتاب كلّها محاولة في جواب هذا السؤال المركزي ومعالجته.
يلاحق المؤلّف بدأب نادر الأسماء السرديّة بمراجعات مستفيضة يستعرض فيها مهاراتهم وخصائصهم الكتابيّة معزّزاً تحليلاته بتطبيقات وأمثلة وشواهد. بعد أن يحدّد ملامح جيل «الأخطار»، يتابع إلى ما اصطلح على تسميته بجيل الضياع الذي «أرعبت أفراده الحريةُ المفاجئة، الممنوحة بإفراط، وصدمت وعيَه المقطوع عن جيل الواقعية الكبير قبل الثورة، فتاهَ يحدوه استشعار خاص بوضعه الذي استعصى على تيار الثورة الجارف وأدبها المتفائل». وقد خصّ خضير ثلاثة منهم بالعناية هم: نزار عباس ومحمد روزنامجي ويحيى جواد. وخصّ الكتاب الرواية النسويّة العراقية التي برزت بعد 2003 بملاحظات وآراء تابعت ثلاثة أسماء بارزة فيه هي: عالية ممدوح، ولطفية الدليمي ودنى غالي، قبل أن يختم الكتاب بالإضاءة على الأسماء الروائية الجديدة وجهدها المثمر في متابعة منجز السردية العراقية، حيث أفرزت علامات مضيئة حققت حضورها ولا يزال الرهان عليها كبيراً مثل مرتضى كزار، وضياء جبيلي وأحمد سعداوي.