كما بات معلوماً، حرب الـ «ستريمينغ» مشتعلة. منصات بثّ رقمي جديدة أبصرت النور (+ Apple TV و«ديزني بلاس»...) وأخرى ستولد قريباً (HBO Max مثلاً)، فيما المنافسة في أشدّها لناحية المحتوى والخدمات والكلفة على جذب العدد الأكبر من المشتركين. وبما أنّ أبرز خصوم «نتفليكس» في هذا المجال هي «ديزني بلاس» التي تبقى في المقدّمة بفضل الأرشيف الهائل والأعمال التي يرتبط فيها الملايين ارتباطاً عاطفياً وثيقاً، أعلنت الشبكة الأميركية التي انطلقت في عام 1997 كخدمة توفّر أقراص الـ«دي في دي» عبر البريد الإلكتروني، عن نبأ أسعد كثيرين حول العالم من محبي الأنيمايشن، لا سيّما اليابانية منها.قبل أيّام، كشفت «نتفليكس» عن استحواذها على حقوق بثّ 21 فيلم «أنيمي» تحمل توقيع أحد أشهر الاستديوات اليابانية: «غيبلي». هكذا، ستُبثّ هذه الشرائط ذائعة الصيت عالمياً عبر المنصة باستثناء الولايات المتحدة وكندا واليابان، على أن يبدأ العرض اعتباراً من الأوّل من شباط (فبراير) المقبل. هكذا، ستصبح الأفلام متاحة للمشاهدة في جميع أنحاء آسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا... بعد ترجمتها إلى 28 لغة. وضمن العناوين التي ستباشر «نتفليكس» عرضها الشهر المقبل، هناك: Castle in the Sky (عام 1986)، وMy Neighbor Totoro (عام 1988)، وKiki’s Delivery Service (عام 1989)، وOnly Yesterday (عام 1991)، وPorco Rosso (عام 1992)، وOcean Waves (عام 1993)، وTales from Earthsea (عام 2006).
الموضوع ليس مجرّد نقطة تسجّل لصالح «نتفليكس» على صعيد الرسوم المتحرّكة، بل يعدّ مسألة لافتة جداً، خصوصاً أنّ «غيبلي» لطالما كانت ترفض توفير نسخ رقمية من إنتاجاتها، متمسّكة بعرضها في صالات السينما حصراً. غير أنّ الشركة التي تأسّست عام 1985 على يد المخرجين الأسطوريين هاياو ميازاكي (1941) وإيساو تاكاهاتا (1935 ــ 2018)، عدلت عن رأيها قبل فترة. إذ تأكّد قبل ثلاثة أشهر استحصال شركة «وورنر ميديا» على حقوق البث عبر الإنترنت في أميركا الشمالية استعداداً لإطلاق HBO Max في أيار (مايو) المقبل. جاء ذلك بعد أسابيع فقط من قول GKids، الموزّع الأميركي لـ Studio Ghibli، إنّ الأخيرة لا تملك طموحات «ستريمينغ» في الأفق! لكن بالنسبة إلى المراقبين، التبدّل السريع في الصورة، وتحديداً في ما يتعلق بالبثّ العالمي، يتعبر «مفهوماً تماماً» بعد حصول «نتفليكس» على 24 ترشيحاً لأوسكار 2020 (بما فيها أفضل فيلم رسوم متحركة) وكشفها أخيراً عن خططها لإنتاج جزء جديد من فيلم برادلي كوبر «ولادة نجمة» الذي تشارك بطولته مع ليدي غاغا.
«في هذا اليوم والعصر، توجد طرق رائعة يمكن للفيلم أن يصل من خلالها إلى الجماهير. لقد استمعنا إلى جماهيرنا واتّخذنا قراراً نهائياً بتوفير خاصة البث عبر تقنية التدفّق الإلكتروني لكتالوج شرائطنا»، قال توشي سوزوكي، منتج استديوات «غيبلي»، في تصريح لمجلة «فارايتي» الأميركية تعليقاً على الصفقة التي أبرمت مع «نتفليكس». وأضاف: «نأمل أن يكتشف الناس حول العالم عالم «غيبلي» من خلال هذه التجربة».
أما بالنسبة إلى HBO Max، فقد أوضح مدير المحتوى لديها، كيفن رايلي، في بيان أنّ أفلام «غيبلي» هي «حابسة للأنفاس بصرياً، وتضم تجارب غامرة تماماً»، قبل أن يتابع: «هذه الأفلام الرائعة المثيرة والساحرة والإنسانية بعمق، استحوذت على قلوب الناس في جميع أنحاء العالم، ونحن فخورون بعرضها بطريقة تسهّل الوصول إليها لمزيد من الناس من خلال HBO Max». من جهته، عبّر كوجي هوشينو، رئيس مجلس إدارة «غيبلي»، عن «حماستنا للعمل مع HBO Max لإتاحة المجموعة الكاملة من أفلامنا لجماهير الـ «ستريمينغ» في الولايات المتحدة. كعلامة تجارية متميّزة المحتوى، نرى أنّ HBO Max منزلاً مثالياً لأعمالنا».
لا شكّ في أنّ إطلاع جمهور أوسع على إنتاجات هذه المؤسسة اليابانية العريقة مسألة بالغة الأهمية، لكن الأهم بالنسبة إلى لوسي جونز، أرشيف «غيبلي» الذي يتحدّث «لغة عصرنا» منذ عقود، في وقت تصارع فيه «هوليوود» لإحداث فرق ما؛ فالشخصيات النسائية عادةً ما تغلب على الأبطال وتتمع بشخصيات مركّبة ودقيقة لا ترتبط بالرومانسية، من الأميرة «مانونوكي»، مروراً بالأخوات في «جاري توتورو»، وصولاً إلى كاركتيرات أكثر عرضية كالنساء اللواتي يُصلحن طائرة «بوركو». فمن الطبيعي أن تكون المرأة عنصراً أساسياً في حبكات «غيبلي». هذا ما أكدته الكاتبة البريطانية في مقال نشرته في صحيفة «إندبندنت».
فقد سبق لميازاكي القول: «لست مقتنعاً بالقاعدة الشفهية التي تشترط ظهور صبي وفتاة معاً ضمن قصة حب فقط... بدلاً من ذلك، أريد تصوير علاقة مختلفة قليلاً، حيث يلهم الاثنان بعضهما البعض للعيش ــ إذا كنت قادراً على ذلك، فربّما سأكون أقرب إلى تصوير تعبير حقيقي عن الحب».
اعتباراً من 1 شباط، سيستطيع الجمهور متابعة 21 فيلماً عبر «نتفليكس»


بعيداً عن صورة المرأة القوية والقادرة، تتركز العديد من الأفلام حول الصراع بين البشر والطبيعة، والقضايا البيئية الناجمة عنها تلت ذلك. على سبيل المثال، في قلب بعض من أعظم قصص «غيبلي» السؤال عن كيف يمكن للبشر وبقية الكائنات الحيّة التعايش؟ ومن اللافت للنظر أنّ قصة «مونونوكي» عن معركة بين الحضارة المتعدّية للإنسان والآلهة في غابة، أنتجت في عام 1997. فهي تبدو جذرية حتى الآن، ربما لأنّ السينما الغربية نادراً ما تخدش سطح العلاقة بين البشر وبقية العالم الطبيعي. وأكثر من ذلك، علينا ألّا نغفل السحر الذي يعدّ السمة المميزة لإنتاجات هذه الاستديوات. إلا أنّه ليس مجرّد خيال طائش. يأخذنا إلى كوكب آخر، من دون أن ينسينا الأمور التي تؤرقنا. إنّ الطريقة التي تتعامل بها الأفلام مع السلام، العنف، الحب، الكراهية، الأسرة، العمل، الصداقة، التوازن، البيئة، الاستدامة والرحمة، تبدو وكأنّها وصفة مثالية لأحوالنا المتردّية اليوم في هذا العالم. هناك ثراء فلسفي غالباً ما يكون ناقصاً في أعمال أخرى، على رأسها طبعاً غالبية محتوى «نتفليكس» الأصلي، وعادةً ما يكون في الرسوم المتحركة. ناهيك عن جودة التصميم الصوتية، وموسيقى جو هيسايشي المسجلة بالاستعانة بأوركسترا، فضلاً عن الألوان، الأعمال الفنية والشخصيات الغريبة...
ولعلّ هذا النهج الذي تعتمده «غيبلي» هو الترجمة الفعلية لما أراده ميازاكي من الاسم في البداية. منذ اليوم الأوّل، اختار هاياو أن يُطلق على مشروعه تسمية تستند إلى كلمة «قِبْلي» العربية المحكية التي ترمز إلى الرياح الحارّة والجافّة في الصحراء. وذلك رغبة منه في تنشيط صناعة الرسوم المتحركة، مثل «ريح تهب وتُحدث التغيير».