يثير العمل على أي أنطولوجيا شعورين متداخلين: اللذة واللوم. تنقسم اللذة عادةً بين معدّ الأنطولوجيا وقارئها، فيوغل القارئ في لذة الاكتشاف، تاركاً معدّ تلك الأنطولوجيا ليتلقّى اللوم وحيداً. يصح هذا القول على جميع الأنطولوجيات، لكنه يكاد يكون متركزاً في الأنطولوجيات الشعرية. فكيف إذا كان الأمر بشأن أنطولوجيا للشعر الكردي؟
سيلاحظ قراء كتاب «البهجة السرية: أنطولوجيا الشعر الكردي في غرب كردستان» (دار سردم ــ 2013)، الجهد الكبير الذي بذله لقمان محمود (1966) في الإعداد والترجمة والتقديم. في السنوات الأخيرة، اندفعت رغبة ملحّة لـ«اكتشاف» الجار الكردي «الغامض»، بعد عقود طويلة من المحاولات المتكررة لإخماد صوته التي اجتمعت فيها الرغبة الواعية للسلطة مع الخوف اللاواعي للجيران _ الضحايا الآخرين. وبصرف النظر عن التباينات السياسية، ولا سيما بعد احتلال العراق عام 2003، وانتفاضة القامشلي عام 2004، بقي الشعر بشكل خاص المرآة الوحيدة الصافية في زمن زلزال الهويات. عادت أسماء «قديمة» إلى الظهور بقوة، وولدت قافلة من الأسماء الجديدة التي كانت مجهولة بشكل كبير. ونتيجة لكل هذه التناقضات، يمكننا القول بثقة إنّ أنطولوجيا «البهجة السرية» صدرت في الوقت المناسب.
يقدّم لقمان محمود ما يزيد على 100 شاعر وشاعرة أكراد في غرب كردستان (سوريا) خلال 70 عاماً من بداية كتابة الشعر الكردي بالأحرف اللاتينية على يد الشاعر الرائد جكر خوين (1903ـــ 1984). وعلى امتداد 400 صفحة، سيتمكن القارئ من التقاط نقاط التشابه والاختلاف بين الشعرين العربي والكردي في سوريا. كانت الانطلاقة كلاسيكية بالضرورة، تحمل البذور ذاتها من الحماسة القومية والتغنّي بأمجاد الماضي البعيد، في غنائيّة شديدة متوقعة. يبدأ الاختلاف مع ظهور اسم سليم بركات (1951)، بقصيدته النثرية الحادّة التي حفرت في اللغة العربية بلسان كردي، بالتجاور مع تجربة كردية عراقية مذهلة للشاعر الراحل شيركو بيكه س (1940ـــ 2013)، الذي نقل الحفر من اللغة إلى الحياة اليومية. يمكن القول بشيء من التعميم إنّ هذين الاسمين رسما بدرجة ما خريطة الشعر الكردي المعاصر. وبذلك، كانت مهمة الشعراء الكرد «الجدد» أكثر صعوبة في نفي «تهمة» التأثر بأحد هذين الشاعرين الكبيرين.
ستترافق قراءة هذه الأنطولوجيا مع شعور دائم بالذهول اللذيذ. ثمة بركان شعري في الشقّة المجاورة من دون أن ندري. بعد الانتهاء من القراءة، سيبدأ تكوّن الأفكار الأخرى التي تستلزم ظهور نقد حقيقي لتجارب الشعر الكردي، مع مقارنتها بجاراتها السورية والعراقية والتركية والإيرانية. ثمة نقاط تشابه كبيرة تصل إلى حد التطابق أحياناً (مع الاحتفاظ بتفرّد يختلف باختلاف الموهبة) بين الشعر الكردي والعربي، وبخاصة بعد انتشار «القصيدة اليومية» كتيار شعري سائد في السنوات الأخيرة.
رغم الجهد المبذول في الإعداد لهذه الأنطولوجيا، لا بد من ملاحظات مهمة سيطرحها القارئ العربي. ترتيب أسماء الشعراء جاء بحسب الترتيب الأبجدي للاسم الأول، ما أدى إلى فوضى يتجاور فيها أحياناً الاسم الكلاسيكي مع الاسم الحداثي في صفحتين متتاليتين. لكن رغم كل الأخطاء (راجع الكادر)، سيندفع القارئ إلى إعادة القراءة مرة إثر أخرى ليُعيد اكتشاف ما أغفله في قراءة سابقة، ليصقل تلك «البهجة السرية» التي وصلت إليه طازجة، حادّة، وشفيفة برغم غرقها في غبار مسافة تلك الطريق الطويلة من جبال الكرد.




ملاحظات

لم نتعرف في كتاب «البهجة السرية» إلى المدارس أو الأجيال أو التيارات الشعرية الكردية؛ كما لم نعرف إن كان ثمة فوارق مهمة بين مدرستَيْ «عامودا» و«عفرين»، سواء على صعيد اللغة أو الحساسية؛ وكذلك ليس ثمة إشارة إلى الأوزان الشعرية الكردية (في حال وجودها). والأهم، لا نعرف بالتحديد من الذي يكتب بالكردية ومن يكتب بالعربية. فالترتيب الأبجدي يرغم القراء (وغالبيتهم العظمى لا يعرفون عن الشعر الكردي إلا ما تقدّمه لهم الصحافة) على البحث عن الأسماء المعروفة لديهم أساساً، الأمر الذي يعيدنا إلى الدوامة القديمة ذاتها التي تُبرز أسماء بعينها، وتهمّش أسماء أخرى.