أول من أمس، كان موعد «السوبر باول». قلةٌ قليلة في الوطن العربي تعرف عن «السوبر باول». ربما مع تداخل الميديا وتوافر مواقع التواصل الاجتماعي، صار الأمر أقل «غرابةً»: «السوبر باول» هو موعد المباراة النهائية في كرة القدم الأميركية. مناسبة شديدة الأهمية بالنسبة إلى الشعب الأميركي، إذ يشير موقع «انترناشيونال بيزنس تايمز» إلى أنَّ عدد مشاهدي دورة هذا العام من المباراة النهائية هذه التي جمعت بين فريقَي Kansas City Chiefs وSan Francisco 49ers قارب المئة مليون مشاهد (والإحصائيات هي بحسب موقع sportsmediawatch.com). لذا، فأهم الشركات تحضّر إعلاناتها كي تعرضها في تلك المناسبة، كون معظم الشعب الأميركي يتسمّر خلف شاشات التلفزة لمشاهدة مباريات النهائي تلك التي تشبه مباريات كأس العالم لكرة القدم (اللعبة الأكثر شعبية خارج الولايات المتّحدة الأميركية). طبعاً لا تخلو المناسبة من لعبة الميديا.
(بيب مونسيرّا)

حضرت هذا العام إلى «حفل ما بين الشوطين» (وهي الراحة بين شوطي المباراة) المغنيتان الأشهر ربما ضمن جيلهما: الأميركية جنيفر لوبيز والكولومبية شاكيرا، فضلاً عن إعلاناتٍ من شركات مثل «ديزني» لأفلام ومسلسلات «مارفل» المنتظرة بشدة كـ «واندا وفيجن»، و«لوكي» وسواهما. تحضر الإعلانات التجارية بقوة كذلك في النصف ساعة المثيرة للاهتمام هذه، فتحضّر الشركات الكبيرة إعلاناتٍ مخصصة حرفياً لتلك المناسبة. وللمفاجأة، احتلّت شركة «صابرا» الصهيونية واحدة من مساحات الإعلان في هذا «السوبر باول». لا بل إنها لم تفعل ذلك فحسب، بل وظّفت كل قوتها والنجوم الذين تستطيع «إحضارهم» للإعلان عن منتجها «الحمص المسلوق والمطحون بنكهاته» الذي يمكن أكله مع كل شيء. تضمّن الإعلان نجوماً معروفين، مثل ريك فلير أحد أبرز وجوه المصارعة منذ ستينيات القرن الفائت حتى اليوم، ومغني الراب تي بين، وميغان ثي ستاليون، والمتحولتين (أو كما تسميان Drag queen) مس كراكر وكيم تشي (اللتين اشتهرتا في برنامج Rapaul Drag Queen Race الواقعي)، فضلاً عن الممثل جليل وايت، نجم كرة القدم الأميركية الأسبق بومر ايسون، وكثيرين غيرهم. كل هذا في قرابة الثواني الثلاثين على الهواء تقريباً. أعلن هؤلاء بفرح شديد عن «الحمص» بكل نكهاته: الحمراء التي تتضمن «الشطة» أو (الحر بالعامية)، والأصفر العادي والمعتاد، والأخضر الذي يتضمن نكهة الغواكامول، وألوان أخرى.
تأتي كلمة «صابرا» من اللغة العبرية وتعني «الصبار». لكن التعبير أعمق من ذلك بكثير: إنه يعني «اليهودي/ الصهيوني» الذي ولد في أرض فلسطين المحتلة. أسس الشركة ايهودا بيرل عام 1986 في كيان الاحتلال، لكنها لم تعرف نجاحاً كبيراً إلا حين تشاركت شركتها الأم «شتراوس» مع شركة «بيبسي كو»، وبعدها أسست معملاً كبيراً في تشيسترفيلد كاونتي في ولاية فيرجينيا الأميركية بكلفة حوالى 61 مليون دولار أميركي. مع انطلاق المعمل الكبير، نجحت الشركة في تقديم نفسها كواحدة من أهم شركات «إنتاج الحمص» وبيعه في العالم. طبعاً، نتحدث هنا عن الحمص المشرقي أي «الحمص المتبل مع الطحينة» وسواه من دون أن ننسى أنه صار «حمصاً إسرائيلياً» و«ذا نكهة إسرائيلية» و«طعاماً إسرائيلياً» أصيلاً خصوصاً مع إصرار الشركة على أن تشير إلى أن طعامها هو «كوشير» (أي غير مرفوض دينياً يهودياً). وللتأكيد على صهيونية الشركة وبوصلتها السياسية، أعلنت الشركة في عام 2010 أنّها قامت بالتبرع بمنتجاتها للواء «جولاني» من جيش الاحتلال الصهيوني، ما دفع العديد من دعاة مقاطعة البضائع الصهيونية إلى مقاطعة بضائعها بشكلٍ علني ومباشر.
تنجح «صابرا» في تقديم «منتجاتنا» الغذائية، القادمة من بلادنا وثقافتنا، على أساس أنّها «إسرائيلية» الصنع والمنشأ والطعم. هي تشير أصلاً إلى أنّها «خلقت» حركة ثقافية خلف «الحمص»: إذ إنه صحي، طبيعي، لا يسبب سمنةً، ولا يحوي أي مواد إضافية من شأنها أن تضر الصحة. وما إصرار الشركة على إدخال «المتحولتين الجنسيتين» إلا بغرض حصد دعم من جماعات الضغط من مجتمع الميم أو LGBTQ، في إشارة إلى أنّ «حراك الحمص الثقافي» يجمع الجميع، ولا يميز بين شخص وآخر. هكذا نجد في الإعلان: نجوماً أميركيين من أصلٍ أفريقي، سمراً، آسيويين، ومن الشرق الأوسط، نجوماً لألعاب فيديو ومواقع التواصل، مصارعين وحتى نِمر ماركة التشيبس الشهيرة «تشيتوس» (Chitos) المعروف يظهر في الإعلان. إنه «الحمص» النقطة الجامعة بين هؤلاء. لا ريب في أن الإعلان ذكيٌّ للغاية، يتغلغل عميقاً في خلق «تقبل» لفكرة الطعم اللذيذ لمادة لا يعرفها المستهلك الأميركي كثيراً، لكنها قد تصبح مرغوبةً للغاية في ما بعد. طعامٌ مشرقيٌ بامتياز، تأخذه هذه الشركة ليسهم في تحقيق هدفين رئيسيين: الأوّل خلق بعد ثقافي تاريخي بأن «هؤلاء» جزءٌ لا يتجزأ من تاريخ المنطقة المشرقية والشرق الأوسط، والثاني مادي بحت، يتمثل في بيع طعام لا يعرفه الأميركي، ولا يكلّف الشركة الكثير من المال، إذ ماذا يكلّف صحنُ حمص فعلياً؟
يتغلغل الصهيوني بقوةٍ عبر أساليب متعددة، فيقدّم طعام «المنطقة» على أنه منه وله، بالتالي سيصبح إسرائيلياً بعد سنواتٍ قليلةٍ ولأجيال لا تعرف عن المنطقة أي شيء، تماماً كما حدث مع الفلافل والتبولة والبقلاوة والبرازق والحطة والثوب الفلسطيني والبرتقال اليافاوي!