يواصل ضرب رأسه إلى أن تنفر الدماء منه، بحيث ـــ كما يقول ـــ يمكن أن يخرج الشرّ مع الدم! ولكن الشرّ لا يرحل. معظم الناس يرونه غريباً، بسبب إعاقته العقلية والبدنية. هو الذي يعامِل الجميع باحترام، يحدق مباشرة في العين، يفرط في الضحك وحركته وكلامه بطيئان، وشديد الحساسية للضوء. يقول إن الله لا يحبه، لكنه يتذكر أنّه خلال طفولته، قيل له: «كل شخص لديه هبة، كل حياة لها معنى». يحب الحيوانات، يعانق الخيول والكلاب، يحدق بعناية في حركات الدجاج والديك الرومي، يطارد الصرصار مع ضحكة سعيدة مكتومة في المطبخ. يحبّها لسبب مهم، لأنها أيقظت داخله موهبة الرسم.في نهاية عام 1899، ولد أنطونيو ليغابو لأم إيطالية في زيوريخ. خلال نشأته، أظهر تشوّهات نفسية وجسدية، ما أدى إلى مشكلات سلوكية حادة بسبب عذابه المستمر. في العشرين من عمره، طُرد ليغابو من سويسرا إلى إيطاليا. لم يكن معروفاً يومها. واصل التجوال والعيش على الصدقات حتى وجد أخيراً صديقاً، هو الرسام مارينو مازاكوراتي الذي وفّر له ملجأ وقلماً وفرشاة. بدأ ليغابو بخلق رسومات رائعة جعلته مشهوراً قليلاً مع الوقت. لكن حتى النجاح والمال لا يساعدان في إسكات شياطين الماضي، هو الذي كان يشعر بالضيق بسبب السخرية من مظهره. لكن الوضع بات أفضل قليلاً، إذ صار يُعامَل بشكل أفضل بسبب موهبته. لكن إذا دفع له تجار الفنون في روما وجباته اليومية في المطعم، عليه تناول الوجبة في غرفة مجاورة، وحده، فمظهره الغريب يزعج العالم، بالإضافة إلى مشاكله السلوكية. هو فنان موهوب، لكن نجاحه لم يستطع إنقاذه من مأساة وجوده.
السينما تحب الغرباء، تحب الأشخاص المختلفين إلى حد ما، الذين لا يبالون بالمعايير. وعندما يتجاوز هؤلاء الغرباء اختلافهم ويبرهنون عن قدرات خاصة، يتم وصف ذلك بنصر بطولي ضد الظروف المعاكسة. قصة حياة الرسام الإيطالي أنطونيو ليغابو الذي يُعد من أهم الفنانين الفطريين، حوّلها مواطنه المخرج جورجيو ديريتي إلى فيلم بعنوان «بعيد عن الأنظار» (Hidden Away) يشارك في المسابقة الرسمية من «مهرجان برلين». كل شيء في الشريط بدأ من عين ليغابو، مرّ سريعاً عبر طفولته ثم باكتشاف عبقريّته الإبداعية، وارتباطها بأزماته النفسية، وتجاربه في عالم معاد له. ما يرينا إياه المخرج من الخارج من لقطات واسعة ومقربة، بحركة مستمرة للكاميرا، وتصميم جمالي يغازل التعبيرية في بعض النقاط، وهو ليس إلا انعكاساً عاطفياً لما يحدث داخل رسامنا. ليس مفاجئاً أن يستخدم ديريتي كاميرا شخصية جداً، حيث تدخل المشاهد مباشرة في عين ليغابو. في البداية، بدأ المخرج باستخدام وسائله السينمائية للإشارة إلى إدراك ليغابو ومعاناته. في وقت لاحق، ضبط نفسه قليلاً وامتنع عن التأكيد على المعاناة بالموسيقى العاطفية والمشاهد التي تستجدي التعاطف. بدلاً من ذلك، أعطى الحرية للممثل إيليو جيرمانو لنقل كل شيء، وليس هناك شكّ في أن قوة الفيلم تكمن في إيليو وتجسيده لليغابو الذي يستثمر كل مشهد ليصف واقعياً التشنّجات اللغوية والصوتية والحركية ويخطفها بشكل ممتاز في لحظات التأمل والحزن. قدّم الممثل صورة معقّدة ومقنعة لشخص وجد من الحيوانات وسيلة لطرد شياطينه. مع كل التركيز على مسار حياة الفنان الصعب، بقي إرثه الأكثر أهمية تحت الطاولة أي فنّه. ركّز المخرج على ليغابو كإنسان يعاني في حياته. وعلى الرغم من أنه هذا صحيح، إلا أنّه بدا مبالغاً فيه بحيث يظهر الفيلم كأنه ادّعاء سطحي ذاتي. مثلاً المشهد الذي يدمر فيه ليغابوا أعماله بغضب، هو واحد من الكليشهات الكثيرة التي استعملها المخرج، لافتقار الفيلم إلى العمق لجهة إبراز الناحية الفنية للرسام. لذلك يمكننا بسهولة أن نضع اسم أي رسام آخر، ولن يلاحظ أحد الفرق، ونخرج بفيلم جديد باسم فنان آخر.
لم يصور جورجيو ديريتي سيرة الرسام أنطونيو ليغابو، بل صوّر مأساة جسّدها بشكل بارز ممثل غير عادي يرجع له الفضل في إنجاح الفيلم (يذكرنا قليلاً بالممثل دانيال داي لويس بتقمّصه الشخصيات خاصة فيلم «قدمي اليسرى»). بدأ الشريط سريعاً وأصبح مبتذلاً. كنا ننتظر معاملة عميقة لحياة ومعاناة فنان، فحصلنا على تعبيرات تمثيلية. فن مجوّف وحرف يدوية. ليغابو يستحق فيلماً أفضل.