تبقى الأعمال المسرحية التراجيكوميدية الشعبية الأكثر رواجاً لدى الجمهور المسرحي اللبناني. في كل مرة يتم فيها تقديم مسرحية من هذا النوع، تلقى استحساناً وإقبالاً عند الجمهور. رغم أن نوعاً آخر من الجمهور اللبناني يفضل مشاهدة الأعمال التي تنتمي إلى مرحلة ما بعد الحداثة، التي بدأت ملامحها بالظهور أواخر أربعينيات القرن الماضي في ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية، مع الكوريغراف بينا باوش وغيرها ممن حملوا راية مسرح ما بعد الحداثة. ولكن، علامَ يقبل المخرجون المسرحيون اللبنانيون الشباب في هذا الوقت؟ وأي نوع مسرحي يفضلونه؟في إطار المسرح الشعبي، خاض المخرج والممثل اللبناني الشاب محمد دايخ تجارب مسرحية عديدة. يوم السبت الماضي، اختتم سلسلة عروض مسرحيته «عم يقولوا اسماعيل انتحر؟» على خشبة «مسرح المدينة» (الحمرا)، على أن يجدد اللقاء مع الجمهور في عروض لاحقة على خشبة مسرح «مترو المدينة» (تحدد لاحقاً).
رغم صعوبة الطقس وحالة الذعر التي عاشها اللبنانيون نتيجة تسجيل أول حالة إصابة بفيروس كورونا، كسب المخرج محمد دايخ الرهان، وقدم العرض، فكانت مقاعد «مسرح المدينة» ممتلئة بالجمهور.
تنتمي هذه المسرحية إلى النوع الواقعي، بعيداً عن الفانتازم. فيها شخصيتان: عبدو (محمد دايخ) الذي برع في أداء الشخصية بكل سلاسة وصدق، مقارنةً بإسماعيل (حسين قاووق) الذي كان يؤدي الدور بكثير من الجهد، رغم أنه كان واضحاً حجم الطاقة التي يتمتع بها على مستويات عديدة. يدخل إسماعيل إلى إحدى الغرف المهجورة الواقعة على متن الساحل اللبناني بقصد الانتحار، بعد حالة اليأس التي عاشها. يحاول مراراً وتكراراً أن يقضي على حياته، لكن محاولاته تبوء بالفشل. يعيش إسماعيل صراع الموت والحياة في الوقت نفسه، إلى أن يدخل عليه في ما بعد عبدو، وتبدأ الحبكة بين الشخصيتين في تصاعد درامي، لتنشأ علاقة إنسانية بينهما، ويدخل المتفرج بدوره إلى داخل الأعماق النفسية لكل شخصية، كما يغور في الحالة الاجتماعية التي تعيشها الشخصيتان من أوضاع صعبة نتيجة النظام السياسي والاجتماعي في لبنان. يعاني مخرج العمل كغيره من المحترفين من صعوبة الإنتاج المسرحي، لذلك قرر دايخ خوض هذا المعترك بالتعاون مع عائلته، فتحول جميع أفراد العائلة إلى عاملين في دورة الإنتاج. والدته «إم محمد» تستقبل الجمهور عند شباك التذاكر، والده «أبو محمد» صنع الديكور المسرحي وأخوه يعمل مديراً للمسرح. كل ذلك وسط خطة تسويقية قوامها السوشال ميديا فقط. تبدو خطة الشاب الطموح فعالة وفق ما يؤكد لنا، إذ إن أغلب العروض شهدت إقبالاً كثيفاً، وهناك جو من الألفة والمحبة خلال العمل.
لا يتقيد مخرج «عم يقولوا إسماعيل انتحر» بأيّ قواعد مسرحية، لا يكترث كثيراً للفضاء المسرحي ولا لـ«الميزانسين»، ولا يعتمد أي منهج علمي في إدارة الممثل كمنهج ستانيسلافسكي. لا يتقيد حتى بالتقنيات الجسدية، بل يترك للممثل الحرية الكاملة في نحت معالم الشخصية الجسدية. بالنسبة إليه: «المسرح بدأ من الشارع، فلا داعيَ لتعقيد الأمور... المهم أن تكون الشخصيات قريبة من الناس».
الأمر عينه ينطبق على ديكور المسرحية، فالأدوات السينوغرافية بالنسبة إليه ليست تزيينية، بل هدفها إعطاء جو عام في المسرحية. وليس من الضرورة استعمالها وتوظيفها في خدمة الممثل.
هذه المسرحية بحسب دايخ تقوم على السيناريو والممثل. من خلال النص، يطرح مفاهيم نفسية واجتماعية، يجسّدها الممثل بصدقه. بهذه البساطة يعمل مخرج العمل، الذي يلفت في حديثه معنا إلى أنه «كلما كان العمل المسرحي قريباً من الناس والعمال والفئات الشعبية، تحقق الهدف من ورائه». لذلك يبدو لافتاً أن الجمهور الذي كان موجوداً ليلة السبت، ذو توجّه يساري، فالكل فهم الـ inside jokes التي تخصّهم.
انطلاقاً مما تقدم، يبقى العمل الشبابي في المسرح خطوة تقدّر في يومنا هذا. في حين يتوجه طلاب المسرح والسينما الى التلفزيون والشاشة الفضية، نجد أن محمد دايخ يلمع نجمه يوماً بعد آخر في عالم المسرح، يحشد الجمهور إلى جانبه، ويبني قاعدة جماهيرية له، وتبقى الحماسة والطاقة الشبابية المدماك الأهم من أجل الاستمرار في العمل المسرحي في لبنان. ولكي لا يُسدل الستار عن خشبات المسرح، عليه أن يتجدّد بروح الشباب من أجل استمراريّته، وهذه الأعمال المسرحية لا ضير بها كونها تتوجّه إلى الفئات الشعبية، وتسهم في تحريك الركود المسرحي والثقافي في لبنان.