التوثيق بالكتابة في زمن الحرب شكل من أشكال التحايل على الموت، أو مهادنته، أو إلباسه أسماء مستعارة. وكما أذهلنا كمّ الكتابة التي ولد في الانتفاضة السورية، بدا كأنّ السوريين ــ الكتّاب منهم بالأخص ــ بدأوا الاعتياد على الموت اليومي. ومن رحم هذا الاعتياد، ولدت «كولاجات» اليوميات التي تتضمّن الشعر والسرد النثري الطويل والشذرات، بدرجات مختلفة من الفلسفة والتأمل. وبعيداً عن الأسماء المكرّسة، بدأ ظهور «الكاتب ـ المواطن» بالتزامن مع «الصحافي ـ المواطن»، كإشارة إلى ولادة زمن جديد، وجنس أدبي جديد نسبياً، وروح جديدة في الكتابة والحياة.
السوريون يكتبون يومياتهم. ثمة من استكثر على الراغبين بالبوح أن يكتبوا. وثمة من استهجن «الحياد» الذي يكتب به البعض. الحياد تجاه القذيفة والطائرة والذبح والموت. لم يدرك هؤلاء «المراقبون» ربما بأنّ هذا التلعثم وعدم اليقين هما ما يجعل لما تبقّى من الحياة السورية معنى. بعيداً عن الركام والرصاص، ثمة من سئم دموعه ودمه، وبدأ البوح. بدأ ملح الكتابة، والملح هو كلّ ما تبقّى للسوريين من دمهم ودموعهم. وسيكون هذا الملح الجارح بداية أخرى للشعب «الحكّاء» الذي سئم سنوات الصمت. ربما كان ثمة اختلاف في نبرة الصراخ ودرجاته، لكن الهمس وحّد الجميع. همس اليوميات بسذاجتها، وطزاجتها، وحرقتها. بالطبع، كان لا بدّ للطوفان من سد ينظّم اندفاعه. ومع بداية السنة الثالثة للانتفاضة وتحوّلها إلى حرب يومية، بدا كأن ثمة «اقتناعاً» جمعيّاً احتل السوريين، مؤيدين ومعارضين، بأن زمن الحرف انتهى وبدأ زمن السلاح. سنة كاملة من الاقتتال مرت وانتهت، لتبدأ السنة الرابعة، ولتبدأ ثمار اليوميات بالظهور، بعد انتهاء «ألف ليلة وليلة» من الحرب السورية. بدأ هذا التوثيق يأخذ شكلاً مؤسساتياً بعيداً عن فوضى الشذرات العابرة. انتهى عصر اليوميات وبدأ عصر الشهادات. صارت الشهادات جنساً أدبياً مرغوباً من دور النشر، وبدأت حمى نشر الكتب بعد ما يزيد على عامين من النشر المنتظم لليوميات السورية في الصحف على اختلاف توجّهاتها السياسية والفكرية.
ربما لم يكن ثمة اختلاف كبير في التفاصيل الهامشية اليومية بين اليوميات والشهادات، ولكن الأمر اللافت هو أنّ فسحة جديدة للبرود التأمّلي قد ولدت في الكتابة التوثيقية. ولعل هذا المزج الذي قد يخالف «الأصول» المتعارف عليها في التوثيق، هو ما جعل للشهادات نكهة مغايرة: تجاور اليومي العابر مع استعادة التاريخين القريب والبعيد على حد سواء، إضافة إلى التقاط اللحظات النفسية الحرجة في الأزمات. ليس ثمة ادّعاء بالشجاعة أو «السوبر - وطنية»، وليس ثمة يقين بشأن المستقبل. هناك تدوين بارد لليوميات الساخنة، وهناك رؤية جديدة للحدث تحاول قراءة «الآخر»، بل محاولة فهمه. وهذا الخلط والتناقض هو ما سيجعل لهذه الشهادات حضوراً أكبر في الأيام القادمة. وليس من المصادفة ربما حضور هذه النبرة الجديدة في التدوين بالتزامن مع انطلاق سلسلة «شهادات سورية» المتخصصة في نشر كتب اليوميات، وقد أصدرت أربعة كتب حتى اليوم. من يتأمل اسم دار النشر «بيت المواطن»، والحضور المتناقض لها (كما تشير الصفحة الأولى من منشوراتها) في دمشق برقم هاتف لبناني، سيدرك بأنّ هذه الأحلام المؤجلة ببيت يضمّ الجميع بدلاً من تفصيله على قياس مزاجيّ، وبمواطنين بدلاً من الرعايا، هو ما يجعل لهذه النبرة «التصالحية» الجديدة معنى، وسيضاعف الألم لأن قدر هذه الأحلام هو أن تُثمر (ولو موقتاً) خارج حدود هذه الأرض التي ضاقت بالوطن وبأبنائه.
وكما كان الصراخ، قبل ثلاث سنوات، هو الذي أطلق الانتفاضة المجهَضة، سيكون الهمس الآن بداية لمرحلة سورية جديدة. وبعد الخيبات السياسية المتلاحقة، وإقصاء الثقافة والتفكير خارج كادر الصورة المؤلمة، تعود اليوميات/ الشهادات لترسم حدوداً جديدة في المشهد الأدبي السوري. ولعل هذا الانتقال من الشفاهية إلى الكتابة والتدوين سيشكّل أساساً متيناً ما في زمن التعثرات والكبوات، وسيُفرد الواجهة للحياة وليس للموت بأسمائه المستعارة الثقيلة.