في فترة زمنية قصيرة، قفز الإعلام اللبناني سريعاً، من أزمة إلى أخرى، من دون فاصل زمنيّ بينهما. هكذا، تجمّدت المشهدية الإعلامية التي وُلدت بعد 17 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بعدما كانت قد أطاحت بكل البرمجة السابقة وفرضت أدبيات واصطفافات سياسية/ إعلامية. ثم أتت الأزمة الحالية مع انتقال فيروس كورونا إلى لبنان، بعد سيل من الأخبار والمعلومات والصور القاسية، لا سيما من الصين التي تشي بكارثة صحية وإنسانية تفوق القدرات البشرية. مع دخولنا الأسبوع الرابع على تشخيص أول إصابة رسمية علنية بالفيروس، وفتح أبواب «مستشفى بيروت الحكومي» للمصابين والمحجورين، نلقي نظرة بانورامية على كيفية تعاطي الإعلام اللبناني مع هذه الأزمة: كيف أدارها؟ هل كان على قدر المسؤولية التي تفرضها الأزمة، أم توزّع على جبهات متواجهة كما جرت العادة؟مع بدء أخذ الفيروس شكل تهديد جدّي، بدءاً من الأسبوع الثالث، وتسجيل حالات وفاة، كان الإعلام بمجمله يسير على إيقاعات متناقضة، وسط بحر هائج من المعلومات، وكثير من الشائعات، وخرق لأخلاقيات المهنة. طبيعة التوزيع التحاصصي للإعلام، واعتياده على الخروج عن المعايير الإعلامية، لا بل وضع نفسه في مصاف أعلى من السلطة السياسية الحاكمة، وتوزعه طائفياً وسياسياً... كل هذه العوامل أسهمت على الدوام في إنتاج مادة إعلامية تغيب عنها النزاهة والمهنية والحقيقة الكاملة. هكذا، بدأت في الأيام الأولى سلسلة نكات تترافق مع كمّ هائل من الشائعات حول كورونا، وكانت ساحتها المنصات الافتراضية. تبعها تحذير من وزارة الإعلام والجهات المعنية، للإعلام التقليدي والرقمي، بضرورة الاستناد إلى مصدر رسمي: «الوكالة الوطنية للإعلام»، لاستقاء المعلومات الدقيقة والرسمية حول الفيروس المستجد. حين ظهرت أولى الإصابات في لبنان، وطبعاً الجميع يذكر اسمها ولباسها، انتشرت وقتها بطريقة غير أخلاقية صورة جواز سفرها، واستغلّ مجيئها من إيران، لتبدأ في هذه اللحظة أي في الربع الأخير من شهر شباط (فبراير) حملة إعلامية قادها فريق سياسي وإعلامي، امتهن التحريض والتأليب، واستخدم لغة لم نعتدها قبلاً في أدبياتنا. حملة حطّت بشكل رئيسي في mtv. إذ كان واضحاً سيرها بهذا الاتّجاه مهما كلف الثمن. على مدى أكثر من أسبوعين، ظلّت المحطة، ومعها جوقة سياسية، مستمرة في هذه الحملة التهويلية والعنصرية، التي لم توفر خصومها السياسيين. هكذا، تركت قناة «المرّ» مهمتها كمنصة يُفترض أن تتحمل مسؤولية وطنية في هذه الأزمة، وإذ بها، تصفّي حساباتها وتفتح النار على «حزب الله» ومن خلفه إيران، وعلى وزارة الصحة، والطاقم الوزاري، متقاطعةً مع الحملة التحريضية الخليجية. خرجت القناة عن أيّ منطق لوسيلة تعارض السلطة، لما انزلقت إليه من سلوكيات غير مهنية، أبرزها تزوير مصدر الفيروس وأعداد الذين أصيبوا بالعدوى، وتشهيرها بأسماء المصابين. نموذج mtv، الفاقع في هذه الأزمة، أبرزَ الفلتان الإعلامي في لبنان. لعلّ أبرز مثال على ذلك، إعلانها حالة الطوارئ وانتحالها صفة رسمية، وقيامها بردّ ساخر واستعلائي على وزيرة الإعلام منال عبد الصمد التي تدخّلت يومها وانتقدت هذا السلوك، والتصرف كأن mtv، هي الحاكم بأمره في الوسط الإعلامي وفوق المحاسبة والمساءلة.
إلى جانب نموذج قناة «المرّ»، كانت lbci، تسير في خطّ مغاير، وتعطي نموذجاً مختلفاً عن كيفية تعاطي الإعلام مع الأزمات، وإن فلتت منها الأمور أخيراً، بطرحها «مقدمة بلا مخ». القناة استعادت دورها، في ضخ هائل للمعلومات المتكئة إلى لغة الأرقام والإحصاءات المشغولة بدورها بطرق تسهّل فهمها وقراءتها، إضافة إلى استجلاب شخصيات معنية في مجال الصحة، لبثّ المزيد من التوعية حول الفيروس. ومع هذا الضخّ الهائل للمعلومات، وللإرشادات التي حفظها معظم اللبنانيين، وأضحوا اختصاصيين صحيين، يفتح باب للسؤال هنا عن جدوى هذا الضخّ وإمكانية تقنينه أو توزيعه. نقصد هنا نشرات إخبارية تتخطّى مدة كل واحدة الأربعين دقيقة، جلّها يتناول كورونا محلياً وعالمياً، وعلى مدى أكثر من ثلاثة أسابيع، في مشهدية تتقاطع مع ما حصل إبان التظاهرات الشعبية السابقة وتسمّر الناس أمام الشاشات، ونتائج هذه السلوكيات. لم يطرح الإعلام خطة بديلة أو تقنيناً في المحتوى (لصالح أفكار أخرى قد تصبّ في البحر عينه)، الذي يحاصر المشاهد في وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الشاشات وفي جميع البرامج التي تحوّلت كلها إلى توعوية صحية، ورمت جانباً البازار السياسي. يمكن الوقوف هنا، عند تجربة nbn، التي زنرت أسفل ويمين شاشتها بأخبار الفيروس ووفياته وأرقامه في البلدان، في صيغة قد تولّد توتراً أكثر من طمأنة أو حتى استيعاباً للتعاطي مع كورونا.
إذاً، لم ينجح الإعلام اللبناني في مواجهة أزمة كورونا، التي استنفر لها العالم. استخدم أوراقه السياسية والطائفية خدمة للانقسام والتحريض، وشكلت الخطوة اليتيمة «خليك بالبيت» وحدها تضافراً بين القنوات اللبنانية. مرة جديدة، تتخندق الأخيرة، بين مهاجم ومنتقد للسلطة الحالية وأجهزتها الصحية، في وقت يفترض بالإعلام أن يهيمن عليه الحسّ الوطني والمسؤولية الاجتماعية الجماعية لتخطّي أزمة كورونا.