منذ أربع سنوات، كانت لنا تغطية لـ «مهرجان أبوظبي للثقافة والفنون» بدعوةٍ من القائمين عليه. كانت تلك المرة الأولى والأخيرة طبعاً. منذ ذلك الحين، تابعنا هذا الحدث المهم عربياً، لكن عن بُعد. عرضنا ما له وما عليه، وانتقدناه موسيقياً وأبعد من ذلك، مثل إضاءتنا على الإهانة التي تعرَّض لها قائد الأوركسترا الإنكليزي كولن دايفس في دورة 2010 (رحل العام الماضي). يومها، «نُقِعَ» في الكواليس منتظراً وصول أحد الأمراء «المولعين» بالموسيقى لبدء الأمسية. كذلك، أشرنا إلى استضافة المهرجان موسيقيّين يحملون الجنسية الإسرائيلية (عازف البيانو يافيم برونفمان). لا نكشف سرّاً إن قلنا إنّ أبوظبي وشقيقاتها من دول الخليج لا تحبّ النقد. هي تحبّ الموسيقى فقط! و«مهرجان أبوظبي» يأتي بأسماء من الصف الأوّل، ما يجعله ممتازاً بتجرّد. إنه نتيجة حتمية لفائض المال والرغبة في «تسريع» الزمن لمراكمة الحضارة في وقت قياسي. لكن إن كانت الأمور على هذه الحال، فلماذا نغطي هذا النشاط؟ في الواقع لسببيْن: لقول الكلام الآنف ذكره من جهة، ولمَدّ «السمّيعة» المحترمين ببعض التوجيه، وهم من الوافدين إلى أبوظبي للعمل، شأنهم في ذلك شأن الفنانين الذين ينقشون تاريخ الخليج الثقافي. إذاً، انطلق أمس «مهرجان أبوظبي» مع «مجموعة أصيل» التي تقدّم الموسيقى العربية التقليدية.
أمسيتها تألفت من فصليْن. في الأول، أدّت وصلتَين، الأولى مصرية والثانية شامية. في الثاني، انتقلت إلى النتاج المعاصر ذي النفس التقليدي، فعزفت وصلة من تلحين عازف العود والمنشد المصري مصطفى سعيد، العضو الأساسي في المجموعة التي تضم 11 موسيقياً ومنشداً، ثلاثة منهم من مصر، ألمانيا والبرتغال.
مساء الجمعة المقبل، يضرب المهرجان ضربته القوية المعتادة في مجال الجاز عبر استضافة عازف البيانو هربي هنكوك وفرقته. تذكرنا هذه السياسة بـ«بعلبك» أيام العز، حين كانت أمسيات المهرجان اللبناني قليلة لكن تاريخية، قبل أن تنهكه الأوضاع المزرية. الموسيقي الأميركي هو من أهم رموز الجاز المخضرمين في العالم اليوم، علماً أنّ سلوكه في السنوات الأخيرة (اللهث خلف بعض النجومية العالمية التافهة) بات أبعد ما يكون عن شخصية الأساطير التي عايشها وعملها معها في بداياته!
بعد هنكوك، أمسيات بالمستوى نفسه لكن من عوالم مختلفة. هكذا تقدِّم مغنية الأوبرا الشهيرة رونيه فليمينغ أمسية وحيدة الأحد، بعدما ألغت مشاركتها في «مهرجانات بعلبك» الصيف الماضي. بعد الأوبرا مباشرةً، أمسية مخصّصة لوجه الموسيقى الكلاسيكية الغربية الآخر، مع عازف البيانو الكبير... عفواً، قائد الأوركسترا العادي، الروسي فلاديمير أشكينازي (الاثنين المقبل). كما في الجاز والأوبرا، كذلك في الموسيقى الكلاسيكية الصامتة. يقدِّم المهرجان الخليجي أعلى /أغلى ما يمكن دعوته/ شراؤه. عندما حلّ عازف التشيلّو الفرنسي غوتييه كابوسون ضيفاً على «مهرجان البستان» اللبناني مرتيْن (2011 و2013) قدّمناه على أنه نجم. اليوم في أبوظبي، يُذكر اسمه بأحرف صغيرة تحت العنوان الرئيسي، أي أشكينازي، نظراً إلى الأهمية الكبيرة للأخير. الأمسية تجمع إذاً الثنائي الروسي/ الفرنسي و«أوركسترا الاتحاد الأوروبي للشباب» في برنامج يضم السمفونية الثانية لرخمانينوف وكونشرتو التشيلو لدفورجاك وغيرهما من الأعمال. لأشكينازي تسجيلات مرجعية لأعمال للبيانو المنفرد أو مع أوركسترا. في السنوات الأخيرة، سقط في امتحان باخ (على عكس مواطنيْه تاتيانا نيكولاييفا وسفياتوسلاف ريختر)، فأنجز تسجيلات عدة لم تقدِّم جديداً في هذا المجال. بالتزامن مع أفول نجمه كعازف كان يُحسب له حساب، راح يمارس قيادة الأوركسترا، وهذه مسألة رائجة اعتمدها كثيرون في العقود الأخيرة. لكن، مع الأسف لم يستطع أشكينازي أن يهدي الديسكوغرافيا الكلاسيكية تسجيلاً واحداً يوازي تحَفه كعازف بيانو.
في 26 الجاري، أمسية كلاسيكية أيضاً، لكن شعبية بعض الشيء مع عازف الغيتار ميلوش كارادكليش المعروف باسمه الأول. في السنوات الأخيرة، لم يوقع الناشر الألماني «دويتشيه غراموفون» عقداً مع عازف غيتار أهم من هذا الشاب. وهنا أيضاً نقطة قوية يسجّلها المهرجان في الدورة الحالية، والأمسية موجّهة إلى محبي البراعة الفائقة (بمفهومَيها التقني والجمالي) والأنغام اللاتينية، الشعبية والكلاسيكية. في 28 و29 آذار (مارس)، يقدِّم «مسرح الباليه الأميركي» عرضاً لـ «كوبيليا»، أحد أشهر الأعمال في مجالها (موسيقى الفرنسي ليو ديليب). هنا أيضاً المستوى لا نقاش حوله، خصوصاً أنّ المرافقة الأوركسترالية تتولاها «أوركسترا درسدن»! ماذا بعد هذه المفاجآت؟ مع الأسف، ليلة ختامية في 31 الجاري، بعد هربي هنكوك ورونيه فليمينغ وفلاديمير أشكينازي وميلوش... والتوقيع لصاحب الروئ الفنية التسطيحية، اللبناني ميشال فاضل!

abudhabifestival.ae





ما قبل البرنامج

ككل سنة، يمهِّد «مهرجان أبو ظبي» لبرنامجه بأمسية مهمّة قبل أسابيع من انطلاقه. هذه السنة قدَّم هدية يحلم بها أي جمهور للموسيقى الكلاسيكية في العالم، إذ دعا قائد الأوركسترا الفنزويلي الشاب غوستافو دودامَل (1981)، النجم الأول في مجاله عالمياً اليوم. الأهم من ذلك هو حضور «أوركسترا سيمون بوليفار السمفونية الفنزويلية» التي انطلقت واشتهر معها القائد الديناميكي. أما البرنامج فانحصر بتشايكوفسكي وبيتهوفن.