طائر يجلس على فرع شجرة ينظر إلينا. منشرة كبيرة ينبعث الدخان من مداخنها. آلة تشحذ منشاراً دائرياً. شلال تسقط مياهه على بحيرة كبيرة. لوحة إعلانية كعلامة ترحيب بقرية «توين بيكس» بعدد سكانها الـ٥١٢٠١ نسمة. بهذه المشاهد الافتتاحية، يتم تقديم جوهر القرية التي تحمل اسم المسلسل من تأليف ديفيد لينش ومارك فروست. كانطباع أول، يبدو أنه يوم عادي في مكان مثالي. جنة تحوطها الأشجار والجبال. هذه الافتتاحية هي انعكاس مزدوج: تصف هذه الصور افتراس الإنسان للطبيعة ويتم تقديمه بطريقة ملوّنة بموسيقى منومة لآنجلو بادلامينتي. إنها استعارة للحقيقة التي سيتم الكشف عنها بعد دقائق: تعرضت مراهقة تبلغ ١٧ عاماً للتعذيب والاغتصاب والطعن. يخترق المنشار الخشب كما اخترق سكين القاتل لحم لورا بالمر (شيرلي لي).ثلاثون عاماً مرّت على الحلقة الأولى من المسلسل التي طرحت السؤال الأشهر: «من قتل لورا بالمر؟». هكذا ولد «توين بيكس» سرّ ديفيد لينش (1946) الغامض الذي كان حدثاً كبيراً في تاريخ الشاشة الصغيرة. في نيسان (أبريل) ١٩٩٠، تم تقديم القصة التي ستغيّر الثقافة الشعبية بعمق، بمزيجها الفريد من الغموض والشخصيات المحببة، وبالأخص العميل كوبر (كايل مكلاكلن). يدين العصر الذهبي للتلفزيون، الذي نعيش مثله اليوم، بالكثير لهذا المسلسل الفخم الذي أثبت أن الشاشة الصغيرة يمكن أن يكون لها مكان محترم مثل دور السينما. بمزيج من الغموض والسوب أوبرا والإثارة والجريمة التي لم تفقد أياً من سحرها حتى يومنا هذا، قدّم لنا لينش واحداً من أهم المسلسلات التلفزيونية.
حتى أجمل القرى، حيث النادلات ودودات، وحيث تُخبز أشهى فطائر الكرز وأطيب قهوة، لها أسرار. أنقى جنات عدن يمكن أن تخفي أسوأ الكوابيس تحت قمم أشجارها. عندما تنتهي شارة البداية وتبقى الكاميرا موجهة على مدخل القرية؛ يتباطأ الوقت، ونشعر بأن شيئاً غريباً يحدث في الداخل. العالم أراد معرفة من قتل لورا بالمر، وتاه بكل سرور في وجوه الشخصيات وحياتها. يولّد المسلسل الحيرة والهلوسة، وهو ذو قدرة غريبة على توليد القشعريرة والضحك على حد سواء.
نجاح وسحر «توين بيكس» يقف وراءه واحد من أهم المخرجين السينمائيين والفنانين البصريين. استعمل ديفيد لينش في المسلسل لغته السينمائية التي لا مثيل لها. مزج سوريالية رينيه مارغيريا بواقعية إدوارد هوبر والصورة الشعبية للحياة اليومية في أميركا الريفية، وبث فيها روحاً مظلمة تشير إلى أن شيئاً غريباً يحدث. هنا يوجد خيال هذياني، تأخذنا إليه شخصيات أيقونية، وتفتح المجال لمسار من الغموض لم ينتهِ إلى الآن.
مزج لينش في المسلسل الكثير من مهارته وثقافته السينمائية. أشكال شخصياته وعلاقتها في القصة، تعيدنا إلى كلاسيكيات هوليوود. على مدى أجزاء المسلسل، يمكن أن نلاحظ تأثير هذه الكلاسيكيات على لينش والعمل، لكن الأهم هو هيكلية المسلسل التي تشبه هيكلية فيلم «المواطن كين» (١٩٤١) لأورسن ويلز الذي استخدم الموت الغامض لاستكشاف سلسلة من الشخصيات والأحداث الغريبة. وأيضاً هناك تكوين الشخصيات التي تشبه شخصيات فيلم «متمرد بلا قضية» (١٩٥٥) لنيكولاس راي، حيث ألهمت ناتالي وود وجيمس دين الشخصيات المراهقة والعلاقة بين دونا وجيمس في المسلسل.
هيكلية المسلسل تشبه هيكلية فيلم «المواطن كين» لأورسن ويلز


لطالما حددت أفلام «النوار» الأسلوب التعبيري لأعمال لينش. وفي المسلسل أيضاً، استعمل بعضاً من هذه الأفلام، خصوصاً الأفلام التي تتعلق بالجنس مثل فيلم «سر ما خلف الباب» (١٩٧٤) لفريتز لانغ، وأيضاً فيلم «لورا» (١٩٤٤) لأوتو بريمينغر حيث يقع محقق في حب امرأة يحقق في مقتلها. لألفرد هيتشكوك وجود دائم في «توين بيكس» ولكن ليس أعماله التشويقية، بل الأفلام المخصصة لعلم النفس مثل «ظلال من الشك» (١٩٤٣) و«المسحورة» (١٩٤٥) الذي يمكن أن نراه في تفاعلات أحلام المحقق كوبر ولورا التي تحمل مفاتيح اللغز والرموز المشتركة. ونصل هنا مع هيتشكوك ولينش إلى فيلم «فيرتيغو» (١٩٥٨) حيث الهويات المستبدلة، وهذا النسيج المرن للشخصيات الملفوف في ضباب رومانسي سام. السوريالية والتجريبية في أفلام لينش لها مكانة خاصة، لكن في المسلسل يمكن أن نلاحظ تأثر لينش برموز الأحلام والصور التي تأخذنا إلى الأفلام التجريبية لمايا ديرين، وبطبيعة الحال أفلام جان كوكتو خاصة الأسطورة اليونانية أورفيوس حيث سيتم اختيار المحقق كوبر للنزول إلى العالم السفلي.
لا يمكن الانتهاء من الكتابة عن لينش و«توين بيكس». سنحتاج لمقالات كثيرة وكبيرة لإيفاء المسلسل وإعطاء ديفيد لينش حقه. إلى الآن، لم يتم استيعاب سحر «توين بيكس» ولا يمكن لأحد ممن شاهد الحلقة الأولى أن يهرب من تأثير المسلسل. وبما أننا نحتفل اليوم بمرور ثلاثين عاماً على انطلاقته، فالأكيد أننا سنكتب في عيده الأربعين والخمسين والستين، ذاك أنّ سحر «توين بيكس» لم ولن يزول.



أجزاء العمل
«توين بيكس» الجزء الأول: ثماني حلقات (1990)
«توين بيكس» الجزء الثاني: اثنان وعشرون حلقة (1991)
Twin Peaks: Fire Walk With Me - فيلم - (1992 – مهرجان كان)
Twin Peaks: The Missing Pieces - فيلم - (2014)
«توين بيكس» الجزء الثالث: ثماني عشرة حلقة (2017)