«لإظهار تناقضات المدينة (...) وتزايد العنف (...) وتوثيق صمت أولئك الذين يرون مدنهم، وقد غزاها القمع والجهل والتطرف» هذا ما قاله تامر السعيد عن فيلمه «آخر أيام المدينة» (٢٠١٦). عندما نقرأ هذه الكلمات، نرى طموح المخرج المصري في فيلمه. كلماته ليست سهلة. وتقديم هذه الأفكار بطريقة سينمائية، خصوصاً أننا نتكلم عن مدينة كبيرة مثل القاهرة لديها خصوصيتها، ليس بالأمر الهين. لكن تامر السعيد (1972) نجح في تحويل كلماته إلى الشاشة الكبيرة بلغة سينمائية فريدة ونادرة نوعاً ما في السينما العربية.خلال مشاهدة الفيلم، ومع تتابع المشاهد، نجد أنفسنا أمام عمل يستحق كل دقيقة أنفقت عليه (استغرق تصوير الفيلم سنوات أو صوّر على سنوات عدة). يرصد العمل العلاقة «الجدلية» لا «الإشكالية» (سنعود لاحقاً إلى مسألة الجدلية والإشكالية في العلاقة مع المدينة) بين خالد (خالد عبد الله) ومدينته القاهرة. يحاول خالد أن يستعيد علاقته بها، عبر استرجاع أيامه السعيدة فيها من خلال صناعة فيلم لا يكتمل، ويبحث عن سكن لا يستطيع الحصول عليه.


تدور الأحداث في فترة زمنية دقيقة هي «آخر أيام المدينة». مدينة توشك على أن تعانق الحرية التي تتوق إليها (ثورة 25 يناير). تأخذنا كاميرا تامر إلى القاهرة المزدحمة التي يخنقها الضجيج، بهشاشتها ووجوه أهلها المتعبة مثلها. يأتي صوت المذياع لينقل لنا الصورة التي يروج لها الإعلام الرسمي الذي يبحث عن متنفّس للغضب الذي يحتقن ويعلو في الشارع على شكل تظاهرات واحتجاجات متفرقة هنا وهناك. يولي الشارع وجهه إلى مشكلات ومباريات المنتخب الوطني، فيحمل أعلام بلاده فقط ليحتفي بانتصارات المنتخب، وينسى هزائمه المتتالية لصالح انتصار رياضي. تبقى القاهرة وسكانها بين موجات التدين الظاهري، وتزييف السلطة للصورة؛ تنتقل الكاميرا مع خالد بين شوارع وسط البلد والمستشفى الذي ترقد فيه والدته، وأماكن طفولته لإيجاد مكان له في مدينته. يرصد الفيلم اللحظات السابقة للتمرد، ويتركنا لإكمال ما سيحدث للمدينة ولسكانها: فإمّا أن تبادله الحب أو تخذله مرة جديدة.
قدم تامر السعيد فيلمه بطريقة جعلتنا غير مدركين تماماً ما إذا كان شريطاً تسجيلياً أم روائياً. من خلال هذه الطريقة، أثبت أن فيلمه، والسينما بشكل عام، يمكن أن تكون تنبؤية، تجعلنا نرى أشياء لا يمكن أن نراها إلا عبر عدستها، عبر وضع طبقات الصور فوق بعضها، لنرى تفاصيلها الدقيقة. من خلال طريقة تقديمه للصور، أثبت السعيد أن «ثورة يناير» ليست فجائية (على الرغم من أن الفيلم ليس عن الثورة). وقد يقول العكس مَن لم يراقب بطريقة صحيحة ما يحدث.
لم يجمّل المخرج القاهرة. لقطاته التسجيلية لم تكن إستيطيقية، لكنه دعانا إلى رؤية الجمال فيها. القاهرة جميلة في الفيلم من دون تزويق، مثل مشهد المرأة التي تسمع أم كلثوم وتدخّن على الشرفة. المرأة عجوز، جميلة مثل القاهرة، لكنها تبدو كهلة مثقلة بالضجيج والتراب ووجوه الناس الحزينة. لم يفرض تامر رؤيته علينا، بل شاركنا في الفيلم ومشاهده كي يوصل لنا ما يريد قوله كمشهد المصعد عندما يسمع خالد دعاء الركوب رغماً عنه، وكيف أن الناس يتأخرون عن موعدهم لأنهم يصلّون وليسوا على دراية أصلاً بالموعد المتفق عليه. نرى بأعيننا هذا التدين الظاهري (المدّ الإخواني) البعيد عن أصول الدين. أما في المشهد الذي يسمع فيه خالد من أبلة فضية أنها لا تتذكر شيئاً عن والده، فلم يُرِنا المخرج إحباطه، بل أحبطنا معه من دون أن يقول خالد إنّه محبط. وهنا تأتي مهارة المخرج في إشراك المشاهد في الفيلم، إذ لم نكن مجرد متفرجين.
تجتمع بيروت والقاهرة وبغداد في الفيلم على الهمّ نفسه


قدم تامر السعيد تداخلاً بين القاهرة ومدينتَي بيروت وبغداد من خلال قصص ومشاهد أصحاب خالد مع مدنهم. بيّن لنا أن «العواصم» في منطقتنا تشبه بعضها، مهمومة، باختلاف مشاكلها. وهنا نعود إلى العلاقة الإشكالية والجدلية بين المواطنين ومدنهم. علاقة أصحاب خالد مع مدينتَي بيروت وبغداد إشكالية، لديهم مشاكل مع مدنهم، يكرهونها في لحظات، ويحبونها في لحظات أخرى وعلاقتهم بها غير واضحة تماماً. العلاقة الإشكالية هي كشيء ليس له جواب محدد، أو ربما له أكثر من إجابة ليس من بينها إجابة واضحة مُجمع عليها، مثل إشكالية من جاء أولاً البيضة أم الدجاجة. أما علاقة خالد (وإذا صح القول علاقة تامر السعيد، لأن الفيلم هو على شكل سيرة ذاتية)، فهي علاقة جدلية مع المدينة. علاقة بتأثير متبادل قد يكون عكسياً. علاقته بها كعلاقة المرأة الفلسطينية التي تزرع الزهور والخضار في فوارغ القنابل. القنابل التي تتسبب في موت من حولها، أحالتها هي أواني زرع تنتج الحياة. خالد أو تامر يحبّ القاهرة، كعشيقة، لكنها تخونه وتخذله في كل مرة.

https://www.arsenal-berlin.de/en/join/arsenal-3/login.html