في كتابه «المسيحية في القرن العشرين: تاريخ عالمي» (منشورات جامعة برينستون ـ سلسلة تاريخ المسيحية)، يقول المؤلف المؤرخ البريطاني براين ستانلي إنّه مع بزوغ فجر القرن العشرين، توقع كثير من المسيحيين أن تشهد العقود القادمة ولادة عهد جديد. كان توقعهم بأن يسرّع الانتشار العالمي المتسارع للمسيحية من قلبها الغربي إلى بقية العالم، في المرحلة النهائية من تاريخ البشرية: عصر ذروة ألفية السلام والوئام الدوليين. تنبأ البروتستانت في أوروبا وأميركا الشمالية بثقة بالنصر العالمي لعقيدة الحضارة الغربية للتقدم التكنولوجي والعلمي والقيم السياسية الديمقراطية والليبرالية والنسخ الإنجيلية للدين المسيحي. هذا المزاج المتفائل في الولايات المتحدة قاد عام 1900 إلى إحياء The Oracle وهي في الأصل مجلة منزلية لتلاميذ المسيح تحت عنوان جديد وطموح إلى حدّ البذخ «القرن المسيحي». وقد أثبتت المجلة من قاعدتها الجديدة في شيكاغو وتحت ملكية جديدة بدءاً من 1908، أنها الجهاز الرئيس بين الفئات الرئيسة البروتستانتية الأميركية السائدة، وما زالت تحتفظ بهذا الوضع حتى يومنا هذا حتى بعد فترة طويلة من فقدان «الخط الرئيس» مكانته البارزة في الدين الأميركي.البروتستانت لم يكونوا وحدهم في توقع أن يحمل القرن الجديد آمالاً مشرقة في انتصار العقيدة والقيم المسيحية، دوماً وفق الكاتب.


فقد نشر الروم الكاثوليك رؤيتهم للتحول العالمي القادم على أساس انتشار الوحي المسيحي. وأعلن البابا بيوس العاشر بثقة في «النية الراسخة» الصادر في حزيران (يونيو) 1905: «حضارة العالم مسيحية: كلما كانت المسيحية أكثر اكتمالاً، كانت الثمار الحقيقية أكثر ديمومة وإنتاجيةً». الحبر الأعظم لم يكن يؤكّد أن مهمة حضارة العالم قد اكتملت، بل إنّ ذلك يتم فقط في الخضوع المطلق لسلطة الكنيسة الكاثوليكية والكرسي الرسولي. علماً بأنه كان يشير على نحو خاص إلى حركة الكاثوليك الإيطاليين المعروفين باسم «العمل الكاثوليكي» التي سعت إلى وقف إشراق المجتمع العلماني من خلال وكالة الأخويات الكاثوليكية ومنظمات الشباب. وفي حين أن البابا بيوس أشاد بتلك التطلعات، إلّا أنه كان حريصاً على توضيح أنه لا يمكن السماح لأي جمعية خارجية (LAY) باغتصاب السلطة الكهنوتية. على النقيض من مؤسسات الرأي البروتستانتية، لم تكن الهَرَمية الكاثوليكية ترى أي احتمال للتحول العالمي من خلال مجموعة من التنظيمات المسيحية التطوعية ومنظمات الإصلاح. الطريق إلى ذلك، دوماً برأي الكاتب، يتم فقط عبر تشكيل شراكات حصرية بين الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والدولة، وصفها الحبر الأعظم بأنها IL FERMO PROPOSITO أي خضوع قوانين الدولة جميعاً لقوانين الإنجيل الإلهية. مع ذلك، فإن رسالة البابا بيوس المنشورة تنضح بوسم التفاؤل المسيحي. وتوقعت أنه إذا أمكن فقط إبرام مثل هذه الزيجات السعيدة بين الكنيسة والدولة، فأيّ ازدهار ورفاه وأي سلام ووئام وأي حكومة ممتازة، سيتم تحصيلها والحفاظ عليها في العالم».
لكن هل بإمكان أي مؤلف، مهما كان صاحبه متعمّقاً في مادته ومتبحّراً وملماً بمجالاتها المختلفة أن يمنح هذه المادة ما تستحقه من بحث؟ براين ستانلي، وهو أستاذ اللاهوت العالمي في جامعة إدنبرة، قضى ست سنين في كتابة هذا العمل، فأنتج مؤلفاً مهمّاً وريادياً في مجاله.
أدرك الكاتب أن تناول الموضوع من منظور تاريخي تسلسلي، سيتطلب كتابة آلاف الصفحات. كما أنّه يستحيل على فرد واحد أن ينجزه، على الأقل ليس ضمن عدد الصفحات المحدود. لذلك نرى أنه تجاوز هذه المسألة وكثيراً من الصعوبات المرافقة لها بالاعتراف بنواقصه، مغلقاً الباب أمام نقد غير موضوعي للعمل.
يجادل المؤلف أنه في بداية القرن العشرين، كانت المسيحية غربية للغاية، لكن بحلول نهاية القرن أصبحت ديانة ما بعد الغرب. ونتيجة لذلك، ينبغي للعلماء تجاوز ثنائيات التفسيرات الغربية وغير الغربية للمسيحية في القرن العشرين والانتقال إلى تفسير عبر الثقافات أكثر اتّساعاً. هذا النهج والمقاربة الجديدة للتاريخ المسيحي، سيمكّنان الباحثين من فهم سبب أن المسيحية تختلف ديموغرافياً وتأثيراً، في نهاية القرن العشرين. يقدم الكاتب أدوات ملاحية أو دلالية لتفسير وفهم وتقويم العمليات الثقافية والتاريخية التي أحدثت هذه التغييرات البِنائية (التكتونية) في المسيحية الحديثة على مدى مئة عام. وبذلك، فإن مقاربته للمادة تختلف عن سابقاتها التي درست التاريخ المسيحي إما على أنه تاريخ الكنيسة أو تاريخ الإرسالية أو كلاهما. يرى الكاتب أنه من أجل فهم تاريخ العالم في القرن العشرين، على المرء أن يقدر التيارات الثقافية والسياسية والاجتماعية المتغيرة والمتداخلة المدفوعة، على نحو جزئي، من الحركات المسيحية المختلفة في أجزاء من العالم.
لذلك فإن هذا المؤلف ـــ في ظن بعض من نظر فيه ـــ أكثر من مجرد كتاب للتاريخ المسيحي، لكنه مفيد لمن يرغب في فهم تاريخ القرن العشرين. هو في الواقع محاولة لتاريخ مسيحي تفسيري.
أوضح الكاتب محتوى مؤلفه بالقول إن اهتماماته المركزية أملت شكله. فهو ليس مسحاً شاملاً لكل منطقة على حدة ولا سرداً زمنياً مباشراً. بل إنه يضم 15 موضوعاً ذات أهمية قصوى لفهم الأبعاد العالمية للمسيحية المعاصرة وتحليل الطرق المختلفة التي استجاب بها المسيحيون لبعض أهم الاتجاهات الاجتماعية والثقافية والسياسية في القرن العشرين. يتم تقديم كل موضوع ثم توضيحه من خلال دراستي حالة جغرافيتين معظمهما مأخوذ من قارات مختلفة. وقد تؤدي المقاربات غير المعتادة لبعض دراسات الحالة هذه إلى إثارة تعجّب المتخصصين الإقليميين أو المتخصصين. على سبيل المثال، أهل الاختصاص في مادة «العصبية الكاثوليكية» في بولندا، لن يتقبلوا عرض موضوعهم إلى جانب ظاهرة العصبية البروتستانتية في كوريا. وسيكون العكس صحيحاً لعلماء العصبية الكورية (انظر الفصل الثاني). لقد تم تصميم هذه التجاذبات غير التقليدية لتضيء من خلال المقارنة والتباين، وكذلك لتحديد الروابط عبر الوطنية التي غالباً ما يتم تجاهلها. كما تم اختيار دراسة الحالات بهدف ضمان مقياس معقول للشمولية الجغرافية عبر الحجم ككل، والغرض منها توسيع الآفاق والإنقاذ من الهامش الضمني لبعض المناطق مثل منطقة المحيط الهادئ (انظر الفصل الثالث) والدول الاسكندنافية (الفصل الخامس)، أو منطقة البحر الكاريبي التي تحظى ببعض الاهتمام وإن كان غير كافٍ (الفصل الخامس عشر)، والتي غالباً ما يتم تجاهلها من خلال المعالجات العامة.
يرى الكاتب أن التاريخ الأكاديمي يميل إلى أن يكون تحت سيطرة متخصصين إقليميين أو محليين. وربما يكون تاريخ المسيحية مُعّرَّضاً أكثر من بعض المجالات الدراسية الأخرى، مع أن النمو الأخير للتاريخ عبر الوطني قد حفز على توسيع الآفاق العلمية وبدأ في تشكيل نهج للتاريخ الحديث للحركات الدينية الشعبية، لكن تأثيره في كتابة التاريخ الكنسي التقليدي بقي حتى الآن محدوداً.
يضيف الكاتب: مع ذلك بدأ المؤرخون العاملون في مجال «المسيحية العالمية» الذي لا يزال ناشئاً، بتوجيه الطريق من خلال الكشف عن الروابط عبر الوطنية بين الحركات المسيحية الإقليمية والطبيعة متعددة المراكز للهياكل التي أنشأتها أو يسرتها البعثات الكاثوليكية والبروتستانتية من القرن السادس عشر فصاعداً. لذلك فإذا نجح هذا المؤلف في وضع الحلقات والروايات الرئيسة للتاريخ المسيحي القومي في القرن العشرين في منظور عبر وطني مضيء، فسيكون قد حقق أحد أهدافه.
انطلاقاً مما سبق، فإن «التاريخ العالمي للمسيحية في القرن العشرين» لا يدّعي أنه تاريخ فكري لأي من اللاهوت أو التفسير الكتابي، بل نوع تطبيقي حيث يتم التركيز على الطرق التي انعكس بها المفكرون المسيحيون على الكيفية التي تضع بها الكنائس استراتيجياتها التبشيرية استجابةً للتحديات التي يفرضها العالم الحديث، بما في ذلك الظلم الاقتصادي أو العرقي المشرعن. وهكذا تحتل لاهوتات الرسالة والتحرير والانخراط المسيحي مع إيديولوجيات حقوق الإنسان مكاناً بارزاً (مثلاً الفصول التاسعة إلى الثاني عشر). لكن التاريخ الشامل للعقيدة المسيحية في القرن العشرين، مشروع مختلف تماماً عن هدف هذا المؤلف الذي يقدم وجهة نظر مؤرخ في الطرق المتعددة والمعقدة التي تفاعل بها الدين المسيحي وتجسيده المؤسسي في الكنائس المسيحية مع البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية المتغيرة في القرن العشرين. قد يكون النهج المتبع مزعجاً للقراء المسيحيين في إصراره على المدى المثير للقلق الذي سمح المسيحيون به لاهوتهم وحتى أخلاقياتهم بأن تصاغ من خلال الأيديولوجيات السائدة في ذلك الوقت. هذا المؤلف هو محاولة لتمكين القراء الجادين، سواء كانوا يعتبرون أنفسهم مسيحيين أو لا، لفهم كيف أصبحت كنائس العالم كما هي في مواقع جغرافية محددة عند نقاط تحول حاسمة على مدار القرن.
يتوقف الباحث عند لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية وفلسطين


من المفيد أخيراً عرض محتوى هذا المؤلف بما يساعد في تعرف القارئ إلى مختلف موضوعاته:
الفصل الافتتاحي (الحروب والإشاعات عن الحروب: ردود فعل الكنيستين البريطانية والأميركية على الحرب العالمية الأولى) يوضح كيف تأثرت المسيحية البريطانية والأميركية بالحرب العالمية الأولى. ويركز الفصل الثاني (أمم مقدسة؟ التزاوج الصعب بين المسيحية والعصبية) على بولندا وكوريا، مناقشاً ديناميكيات المسيحية والقومية. وينظر الفصل الثالث (قوة الكلمة والتنبؤ: دروب التحول الديني في إفريقية والمحيط الهادي) في الحركات التنبؤية والإحيائية في إفريقيا وجنوبي المحيط الهادئ. ويناقش الفصل الرابع (إعلان الحرب على القديسين: محاصرة الكنيسة في فرنسة والاتحاد السوفييتي) العلمنة التي تفرضها الدولة في فرنسا والاتحاد السوفيتي. ويتعامل الفصل الخامس (أنماط متناقضة من الانتماء والإيمان: الدول الاسكندنافية والولايات المتحدة) مع الاتجاهات الدينية وحضور الكنيسة في الدول الاسكندنافية والولايات المتحدة. ويستكشف الفصل السادس (هل انقسم المسيح؟ الحركة المسكونية وعكسها) وحدة الكنيسة في الهند والصين. أما الفصل السابع (صوت دم أخيك المسيحية، الكراهية العرقية)، فيتوقف عند الإبادة الجماعية في ألمانيا النازية ورواندا. وقد خصص الكاتب الفصل الثامن (الأجانب في أرض غريبة؟ العيش في سياق إسلامي في مصر وإندونيسيا) لمحنة المسيحيين في مصر وإندونيسيا. أما موضوع الفصل التاسع (أن يؤمن العالم: الرسالة المسيحية إلى العالم الحديث) فهو صياغة لاهوتات مهمة القرن العشرين. ويذهب الفصل العاشر (بشارة للفقراء؟) إلى لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية وفلسطين. ويواصل الكاتب في الفصل الحادي عشر (إقامة العدل في جنوب إفريقيا وكندا: أجندة حقوق الإنسان والعرق والشعوب الأصلية) تقصّي دور المسيحية في تحقيق العدالة للمظلومين والمهمشين ومناقشة قضايا العدالة والإنجيل في دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وسكان كندا الأصليين.
كما يواصل الكاتب تقصيه في الفصل الثاني عشر (ضجيج الحرب في المعسكر: حقوق الإنسان والجندر والجنس) في دور الكنيسة في الدفاع عن حقوق المظلومين الذي خصصه للحديث في سيامة النساء في أستراليا وحقوق المثليين في الكنائس الأميركية. وحمل الفصل الثالث عشر عنوان «الروح والأرواح: مسيحيات العنصرة العالمية»، فيما الفصل الرابع عشر «الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية».
ينهي الكاتب أبحاثه المثيرة بالفصل الخامس عشر «كنائس المهاجرين» الذي يناقش تأثير الهجرة العالمية في الكنيسة، ويختم المؤلف بملخص له.
كلمة أخير للكاتب بخصوص مدى فائدة مؤلفه للقراء غير المسيحيين «قد يكون التحدي بالأحرى أن يأخذوا على محمل الجد أكثر مما كان لديهم في السابق القوة المستمرة لتأثير المعتقد المسيحي والممارسات المجتمعية على الثقافة والمجتمع والسياسة في العالم الحديث».

* Christianity in the Twentieth Century: A World History- The Princeton History of Christianity-2018 - Brian Stanley