كانت تلك المرة الأولى التي يقابل فيها جون ألبرت (1948) فيدل كاسترو (1926 ـ 2016). كان الصحافي والمخرج الوثائقي المخضرم يحمل الكاميرا والمعدّات الثقيلة داخل عربة أطفال. جذب ذلك انتباه الزعيم الكوبي. منذ ذلك الوقت، حافظ ألبرت على علاقة ودّ وقرب وثقة غير عادية معه. هذه اللحظة كانت بداية علاقة طويلة الأمد مع الدولة الكاريبية، استمرّت 45 سنة. استمر الصحافي في زيارة كوبا وإجراء مقابلات معه في مناسبات عديدة، حتى أصبح الأميركي الوحيد على متن الطائرة التي نقلت كاسترو إلى نيويورك لإلقاء خطابه الأسطوري في الأمم المتحدة عام 1979. أكثر من ألف ساعة من التصوير منذ أوائل السبعينات حتى 2016، استخرج منها ألبرت شريطه Cuba and the Cameraman الذي طُرح أخيراً على نتفليكس. فيلم وثائقي عُرض للمرة الأولى بعد عام على وفاة كاسترو في «مهرجان البندقية». لا يخفي الصحافي السبعيني إعجابه بالمشروع الاشتراكي خلال شبابه. «في الولايات المتحدة، كانت لدينا سياسة سيئة تتعلق بالصحة العامة والإسكان. هناك شيء ما كان يحدث هناك: الأشياء التي حلمنا بها تتحقّق ببساطة. قال الهاربون إنه مكان فظيع، بينما وصفه الآخرون بأنه جنة على الأرض. أردنا أن نراها بأعيننا».
يركز ألبرت في فيلمه على علاقته بكاسترو وبثلاث عائلات كوبية. على مدى أربعين عاماً، أجرى معها مقابلات بشكل متكرر خلال رحلاته إلى الجزيرة. كاريداد، فتاة ستنتهي قصتها بالهجرة إلى فلوريدا. لويس، العاطل عن العمل الذي يؤمّن قوته في السوق السوداء. الأخوة بوريغو، الفلاحون الذين يواجهون تحدّياً تلو آخر مع السنوات. في كل مرة يعود فيها إلى كوبا، يبحث ألبرت عن الأشخاص أنفسهم، ليسألهم عن أوضاعهم، حتى لو غيّروا منازلهم، ما يمنح الوثائقي روحاً إنسانية. يبدأ الفيلم من خلال عكس اليوتوبيا في السبعينيات، ويكمل بتوثيق البؤس الاقتصادي الناشئ عن انهيار الكتلة الشيوعية والحصار الأميركي، وينتهي بتحوّل الجزيرة إلى وجهة سياحية وموت كاسترو.

من الوثائقي

ببساطة، يمدّ ألبرت يده إلى الجميع وباهتمام حقيقي يسأل: كيف حالك؟ بهذه الطريقة يلتقي بأصدقائه القدامى والأخوة المزارعين الثلاثة، الذين هم الصورة المثالية للرجل الكوبي المرح. ينتقلون من مدح كاسترو إلى عدم معرفة ما يحدث في بلادهم عندما يتحدثون عن سرقة حيواناتهم بشكل متكرر. هذه العلاقة الودّية مع الفلاحين والعائلات، أنشأها ألبرت مع كاسترو، الذي لا يُخفي أبداً إعجابه به. من خلال متابعة ألبرت لكاسترو في الأنشطة العامة، ينتهي الأمر بدعوة الزعيم لألبرت لتصوير خصوصياته وتسجيلها. ليست دعوة رسمية، لكن بما يشبه ذلك الشخص الذي تحبه، وفي كل مرة تقابله في الشارع فتتحدث معه لمدة 15 دقيقة.
بكلّ غطرسة وباسترخاء تام، يطرح ألبرت أسئلة لا تخطر في بال أيّ صحافي في ذلك الوقت. هل تحب البيرة، فيدل؟ هل ترتدي سترة واقية من الرصاص، فيدل؟ يتعامل ألبرت مع كاسترو على أنه فيدل، لا زعيم الشيوعية العالمية. اكتسب ألبرت وعائلته ثقة كاسترو بعدما فاجأه بالخفة التي يتعامل بها معه. لهذا السبب، هناك مشاهد في الوثائقي حصرية تماماً مثلما عندما يزور الزعيم الكوبي الولايات المتحدة، ويدعو ألبرت إلى غرفته، ويعتذر له لأنها غير مرتبة. هل تريد تجربة السرير؟ حسناً، ويستلقي كاسترو ويمزح. مشاهد كاسترو قد تكون كما لو أنها قصة انستغرام بين الاسترخاء التام والنكات. إذا كان هناك شيء رأيناه في فيدل بعيداً عن الكاريزما والحنكة اللتين تمتع بهما، فهو التواضع والمرح التام.
يعمل ألبرت على مستويات عدة، مثلما تتيح لقاءاته المتكررة مع كاسترو سرد قصة ما، هناك قصص ثانية أعطت للوثائقي الحميمية الإنسانية. هذه الصداقة المبنية على الاحترام والإنسانية مع بعض السكان المحليين، مثل الأخوة المزارعين، وكاريداد التي عرفناها طفلةً ثم رأيناها وقد صارت أماً لولدين. وأيضاً، هناك صاحبه لويس الذي عاش أصعب المراحل التي مرّ بها المجتمع الكوبي. شظايا الحياة والأفكار والأحاسيس، نعيشها مع الأشخاص الذين نراهم مع مرور السنوات ونرى التغيّرات التي طالت حياتهم. ومن خلالهم نرى تحولات المشاعر والأفكار. ونلاحظ أيضاً هذه الروح التي لا تُقهر، والتفاؤل الدائم للشعب الكوبي، القادر على التغلب على جميع المشاكل والعيش بتواضع ومستوى من الرضى غريب تماماً عن معظم سكّان هذا الكوكب. من القصص العامة والخاصة واليومية، تمكن «كوبا والمصوّر» من رسم جدارية لشعب لا يفهمه الغرباء تماماً. كشف عن جوهر أمة تتكون من تناقضات وقيود وتاريخ سياسي، وأيضاً إيجابية وطبيعية ومرح وحب وموسيقى و«روم» تجعلها مثالاً رائعاً وفريداً للحضارة.
وثّق البؤس الاقتصادي الناشئ عن الحصار الأميركي للجزيرة وانهيار الكتلة الشيوعية


بالإضافة إلى طابعه السياسي، يمتاز فيلم ألبرت بتلك النبرة الإنسانية التي تُظهر لنا بشراً يتصرفون وفق ما تمليه مُثلهم. يبذلون قصارى جهدهم بالقليل الذي يملكونه. يعطينا ألبرت وثيقة اجتماعية وسياسية قيمة. فيلم محايد، مقالة لا تشوبها شائبة عن آثار مرور الوقت. من خلال الشهادات الحميمة لثلاث عائلات كوبية وبعض اللقاءات مع كاسترو، ينسج ألبرت قصة عن الروح القتالية للإنسان في كوبا. ليس لأنّ المخرج يفتقر إلى الرأي، ولا لأنه لا يقدم تعليقات شخصية، ولكنه يحاول دائماً الابتعاد عن النقد أو الحكم، وترك هذا الدور لنا. يعرض كاميرته كوسيط بين الشهادة والمتفرج من دون أن يسكت قصص النصر ولا أحلك الأحداث. يخدم هذا النهج ألبرت، صياد الحقيقة الدؤوب. الصحافي المتمكّن الذي يعرف دور الفيلم الوثائقي، وكيف أفادت الشوارع من ظهور الكاميرات لتظهير مشكلاتها الاجتماعية، ما يدل على علاقة شبه طبيعية بين الفيديو والدليل.
عندما بدأت الرأسمالية بدخول كوبا مع اقتراب رحيل كاسترو، كان ألبرت موجوداً للتحدث للمرة الأخيرة مع فيدل. وداع أنهى به فيلمه. في المحصّلة، ما قدمه لنا ألبرت وكاسترو وكوبا هو درس في الحياة، والزمن الذي يجتاح كل شيء، والعلاج المفقود أمام المنعطفات القوية التي تتخذها الحياة. بالتالي، فأهم شيء هو كنز اللحظات الحميمة، والابتسام والرقص كما يفعل أصدقاؤنا الكوبيون، إنّهم أشخاص مرتاحون، مرحون يعرفون تماماً أنّ لا أحد يموت قبل أوانه.

* Cuba and the Cameraman على نتفليكس



الشريط في سطور
«كوبا والمصوّر» لم يكن العمل الوحيد الذي أنجزه الصحافي الاستقصائي وصانع الأفلام جون ألبرت. لقد أنجز أكثر من ثلاثين وثائقياً بين طويل وقصير. عمله الصحافي وشغفه التصويري، دفعاه إلى الكثير من البلدان، والتصوير في أشد المناطق سخونة في العالم. كان أول صحافي أميركي يدخل كامبوديا بعد حرب فيتنام. سافر إلى إيران خلال أزمة الرهائن، وأنجز العديد من التقارير الحصرية. من إيران عبر الصحراء، كان أول صحافي يدخل أفغانستان مع «المجاهدين».
كان الصحافي الغربي الوحيد الذي بقي في نيكاراغوا بعد تولّي «الجبهة الساندينية للتحرير الوطني» الحكم، والصحافي الوحيد في أرض المعركة في حرب الكونترا.
تقارير كثيرة أنجزها ألبرت أيضاً من الصين والفيليبين وروسيا وكوريا.
خلال حرب الخليج، كان الوحيد الذي تمكّن من نقل مشاهد غير خاضعة لرقابة السلطة الأميركية، ما عرضه للكثير من المضايقات. حتى إنه طرد من المحطات الذي كان يعمل فيها. وهو أيضاً الصحافي الأجنبي الوحيد الذي أجرى مقابلة مع صدام حسين. وخلال حرب العراق، قدم مشاهد حصرية للمعارك في وثائقي باسم «طوارئ بغداد» (2006). ترشح ألبرت مرتين لجوائز الأوسكار لفئة أفضل فيلم وثائقي، أولها عام 2010 عن فيلم «كوارث غير طبيعية في الصين: دموع مقاطعة سيتشوان». والثانية عام 2012 لنفس الفئة عن فيلم «ريدامبشن». حاز أكثر من 10 جوائز ايمي والكثير من الجوائز الصحافية.