رغم سوداوية المشهد الذي فرضه وباء كورونا، إلا أنّه عاد وأفرز ميكانيزمات جديدة، لا سيما في المشهدين الإعلامي والثقافي، مع تشريع العالم الرقمي أبوابه أمام زواره من مختلف الشرائح الاجتماعية والاقتصادية. هكذا، أضحت المعارض والمتاحف، وكذلك الأفلام وأرشيفها الدسم في متناول الجميع، تزامناً مع الحجر الصحي، علماً أنّ ذلك كان مقتصراً فقط على المشتركين في منصّات هذه الأماكن الثقافية. وعلى صعيد الميدان الإعلامي، خرّب كورونا قواعد اللعبة وأقعد المراسلين في المنازل، وأبعد في ما بينهم لدى تغطياتهم الخبرية. هكذا، نشط الميدان الإلكتروني، وطوّعت أدواته في خدمة العمل الإعلامي، مع استخدام مكثّف لتطبيقات عوّضت عن غياب الضيوف في الاستديو، وعن اضطرار المراسل لتنفيذ تقريره ميدانياً.

واليوم، نضيف إلى هذه المشهدية، إقامة ندوة نقاشية إلكترونية تجمع أكثر من ضيف في الوقت عينه. بالطبع، ليس هيّناً أن يكون المحاور أمام نوافذ مختلفة، ويختبر طريقة ضبط الحوار وتوزيعه وإعادة توجيهه بما يتلاءم مع أهداف الندوة. يوم الأحد الماضي، كنا مع ندوة رقمية بعنوان «كسر العزلة... فنانون ومثقفون ضد التطبيع الفني»، على خلفية إعلان mbc السعودية، نيتها عرض مسلسل «أم هارون» (تأليف محمد وعلي شمس، إخراج محمد جمال العدل)، الذي يتناول قصة يهود الكويت في أربعينيات القرن الماضي. أمام هذا المسلسل الذي أثار الجدل لدى إطلاق البرومو الترويجي الخاص به، نشطت حملات إلكترونية دعت إلى مقاطعته، بما أنه يؤنسن العدو الإسرائيلي، ويلعب على الوعي العربي، عبر الاستمالة العاطفية الدرامية. شكّل المسلسل شرارة إقامة هذه الندوة، التي جمعت عشرين شخصية فنية وثقافية (دريد لحام، معين شريف، طارق الشايع، فايز الحسني، فريدة الشوباشي، يوسف كيوان، أمين عرار، يسري درويش، أحمد ويحان، محمد عيسى، أسامة الأشقر، والزميل بيار أبي صعب...) من مختلف الأقطار العربية (فلسطين، المغرب، لبنان، تونس، سوريا، الكويت، مصر..)، على تطبيق Zoom، فيما تولّى إدارته كلّ من الصحافيتين ملاك خالد وحنين رباح. إذاً شكّل «أم هارون»، الدافع الأساسي لتنظيم ندوة إلكترونية، تعرض فكرة التطبيع الفني في الأعمال الرمضانية، وتطرح من خلاله إشكاليات عدة، تطال المغالطات التاريخية التي يلعب عليها صنّاع الدراما، لخداع الجمهور العربي، كقصة يهود الكويت، أو الخليج عموماً، والدخول من خلالها إلى عقل المشاهد بهدف أنسنة العدو، وإثارة التعاطف معه، ومحو تاريخه الدموي. لذا أطلق على العمل الرمضاني في الندوة المذكورة تسمية «مسلسل تطبيعي ذو أفكار مسمومة».

«أم هارون» مسلسل «تطبيعي ذو أفكار مسمومة»

الندوة التي انطلقت يوم الرابع عشر من نيسان (أبريل) الماضي، وامتدت لنحو ساعة وأربعين دقيقة، ساهم في نشرها إلكترونياً كل من: «وكالة شهاب»، و«مؤسسة الرسالة للإعلام»، و«فلسطين اليوم»، و«رواسي»، و«الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين». وكان للأخيرة دور أساسي في تنظيم الندوة، من خلال تنفيذ الإخراج، والمساهمة في التصاميم الفنية. «الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين»، التي تشبّك مع مختلف مؤسّسات المجتمع المدني لإيصال قضية فلسطين، حاضرة حالياً، في ثمانين بلداً حول العالم، بهدف توعية الرأي العام بالقضية الفلسطينية، وإعادة التذكير بجرائم الاحتلال.
وإزاء هذا التشبيك الإلكتروني بين المؤسّسات الصحافية، ماذا عن كواليس الندوة؟ وكيف كانت تجربة المحاورتَين مع باقي الضيوف؟ وماذا أفرزت الندوة الرقمية من نتائج، مقارنة بتلك الندوات المقامة في الفنادق أو في الأماكن العامة، وتجمع ضيوفاً يتناقشون وجهاً لوجه؟ أضف إلى ذلك، السؤال الجوهري الذي يطرح دوماً في ما يخصّ التصدي للتطبيع بكل أشكاله، ويرتبط بالإمكانيات الضئيلة المتاحة لمعارضي التطبيع أمام الضخّ الهائل للأموال في سبيل تمريره عربياً وخليجياً؟ فهل نجحت هذه الندوة في كسر هذه المنظومة، أو أقله فتحت الباب واسعاً أمام استخدام هذه الطرق البسيطة لإيصال الأصوات الداعمة لفلسطين، وتعرية المطبعين؟
الندوة تعطي بديلاً عن «الإعلام الذي تسيطر عليه رؤوس الأموال» (ملاك خالد)


حنين رباح، التي أسهمت في إدارة الندوة والإعداد لها، تخبرنا عن تجربتها في هذا المجال. الصحافية الشابة المعتادة على محاورة ضيف أو اثنين في استديو إذاعي، خبرت هذه المرة، محاورة عشرين شخصية، مع زميلتها ملاك خالد. وعلى الرغم من وصفها التجربة بــ «الرائعة»، إلا أنها اعترتها بعض الصعوبات، كما تقول لـ «الأخبار» مثل اضطرارها إلى العمل على إدارة الحوار، والحلول مكان التنفيذ التقني في خَفْت وتشغيل ميكروفون الضيوف، إلى جانب اعتذار عدد من الفنانين والمدعوين في اللحظة الأخيرة قبيل انعقاد الندوة، أو حتى استخفافهم بها. رباح التي كانت تنسق «تحت الطاولة» مع زميلتها في إدارة الحوار بمعنى استخدام الواتساب وتوزيع الكلام بين الضيوف بشكل عادل، تؤكد لنا أن هذه التجربة، لا تحتاج إلى مورد مالي، بل إلى معرفة مهنية تمكّن المرء الذي يتمتع بعلاقات عامة جيدة، من أن يقيم ندوات مماثلة، مع ضرورة معرفته باستخدامات التطبيقات الإلكترونية، وكل ما يدور في العالم الرقمي. هذا إلى جانب ارتياح الضيف، الذي يطل من بيته، وهذا الأمر يسهم كثيراً في ترتيب أفكاره وغيابه عن أي ارتباك قد يشعر به إذا كان في الاستديو أو أمام الكاميرا.
أمّا خالد، الصحافية في قناة «الميادين»، فالتحقت بدورها بهذه التجربة، واصفة إياها بــ«المهمة جداً» خاصة أنها تعطي بديلاً عن «الإعلام الذي تسيطر عليه رؤوس الأموال»، عدا أنها متحدّرة من فلسطين. وتلفت هنا، إلى اندماجها مع ما يقوله الضيوف العرب على شاشاتهم. ضيوف شكلوا «فسيفساء على هاتفها» كما تقول، وسألت نفسها هنا: «هل هذا هو الوطن العربي الذي تربيت أن أهله يحبّون فلسطين ويفدونها بكلّ غالٍ؟». وأضافت: «رغم كلّ المخططات لتحويل فلسطين إلى شعار أجوف، إلا أنّ أميركا ونتنياهو ومعهما مليارات العربان لن يستطيعوا إزالتها من وجداننا». وأملت خالد في المرات المقبلة، تنظيم برامج مماثلة تضيء مثلاً على أوضاع اليهود والعرب، وإتاحة مجال أكبر لسردية فنية أو إبداعية للمأساة الفلسطينية.