دمشق | هذه المرّة، كنا على موعد مع شكسبير في «مسرح الحمراء» الدمشقي. في البرهة المأساوية السورية، لم يكن مستغرباً أن يكون صاحب «روميو وجولييت» حاضراً، ولو بنسخة محليّة من مسرحيته الخالدة. لم ننصت على الخشبة إلى ما يدور من دسائس ومؤامرات وراء أسوار قصور «فيرونا» الإيطالية، بل وجدنا أنفسنا أمام خرائب بيوت مدمّرة، وبقايا حديقة بشجرة يابسة، وحطام شرفة، كان ضرورياً وجودها، في كل الأحوال، أقله كي يلتقي روميو جولييت خلال حفلة التنكّر المزدوجة التي تعيشها البلاد، ثم يقع في غرامها على الفور. التغريب المسرحي تجاوز لغة شكسبير الغنائية المثقلة ببلاغة القرن السادس عشر ورنين الكلمات، ليضعنا وجهاً لوجه حيال الحرب الدائرة اليوم فوق الأرض السورية، وفقاً للنص الذي كتبه زيد الظريف وأخرجه عروة العربي، وحمل عنوان «عن الحرب وأشياء أخرى».
من آرثر بروك إلى بيريه، وصولاً إلى شكسبير، عبرت حكاية هذين العاشقين الأزمنة كنموذج ساطع للحب في انتصاره على الضغينة والكراهية والأحقاد، لكن صياغة النسخة السورية ذهبت بعيداً، في تشريح أوضاع السوريين عبر فرقة مسرحية تجري بروفاتها على مسرحية «روميو وجولييت». لن تكتمل البروفة كما يشتهي المخرج، الذي يؤدي دوره مخرج العرض نفسه (عروة العربي)، فالظروف تعاكسه تماماً، من انقطاع الكهرباء أثناء موعد التمارين، إلى غياب أحد الممثلين بسبب صعوبة الوصول من الضواحي إلى قلب المدينة.
فضلا عن الوقت المهدور عند الحواجز، هناك مشكلة ارتباط بعض الممثلين بتصوير أعمال تلفزيونية، وما على مخرج العرض إلا أن ينصاع لهذه الظروف القاسية، حتى إنه يضطر إلى إسناد دور وصيفة جولييت إلى ممثل، بعدما غابت الممثلة الأصلية لرعاية والدتها المريضة، لكن كيف تبدأ البروفة في غياب روميو؟ تأخّر الممثل الذي كان مفترضاً أن يعود من مدينته طرطوس قبل موعد البروفة. ولم يعد محتملاً أن ينتظر الآخرون كل هذا الوقت، فيقرر المخرج أن يبدأ البروفة بمن حضر.
يغادر الممثلون والراقصون الخشبة إلى الكواليس، استعداداً لأداء المشهد الأول من النص الشكسبيري. لن تسير الأحداث وفقاً لمجريات النص الأصلي. سوف يختزل المعد والمخرج بعض المشاهد، بما يتواءم مع رؤيتهما الجديدة للعرض. هكذا يغيب عميدا العائلتين المتخاصمتين في فيرونا «مونتغيو»، و«كابوليت» فيما يحضر الأبناء، وزوجة كابوليت الخائنة (روبين عيسى) وابن عمه تيبالت (يزن الخليل)، لنتعرّف إلى تفاصيل علاقتهما المحرّمة، وتأثيرها على جولييت (جيانا عنيد) التي قررت بعدها التنسك وعدم الزواج، إلى أن التقت عازف الكمان، الذي كان يشجي وحدتها بعزفه الساحر، من دون أن تعرف من هو. وحين تلتقيه، تكتشف أنه روميو (وسيم قزق) ابن غريم والدها، لكن العشق الشكسبيري سيتفوق على ما عداه من محن وصراعات ومؤامرات، تتخللها مبارزة بين روميو وتيبالت، عشيق والدة جولييت، تنتهي بمقتل الأخير، ثم بهروب روميو وجولييت من القصر ليتزوجا سرّاً، بمباركة الكاهن (بسام ناصر)، إلى أن يموتا معاً.
يزاوج عروة العربي بمهارة بين ثنائيات متضادة، كأن يحمل روميو السيف بيد والكمان باليد الأخرى، أو أن يغادر مع جولييت القصر على دراجة هوائية برأس حصان أبيض، كما نرى روميو بسروال جينز وقميص مفتوح بسبب تأخره عن الحضور إلى المسرح والتحاقه بالبروفة بمجرد وصوله من كاراج الحافلات بحقيبة سفر، وقبل كل ذلك مزاوجة الفصحى الشكسبيرية الفخمة من نوع «لا تهتم فليس جرحي واسعاً كباب كنيسة»، و«كأنها على خد الليل أشبه بدرّة ثمينة»، ومفردات العامية السورية المشحونة بالغضب واليأس والحب. مفردات تنطوي على سخرية مضمرة بقصد إطاحة صرامة المسرح الشكسبيري، نظراً إلى مرارة المشهد الواقعي في الخارج. العرض ظل مرتبطاً بهموم الممثل خارج الخشبة، وعبثية إنجاز عرض يوازي ندوب الشارع وحكاياته المأساوية التي تتفوّق على تراجيديات شكسبير نفسه. وتالياً، فإن صراع العائلتين المتحاربتين هو الوجه الآخر لما تعيشه البلاد اليوم، ولن تشفى النفوس المتصارعة إلا بالحب، لكن كم جولييت سورية كانت قرباناً لهذا العنف المستمر؟ وكم روميو دفع ثمناً لفاتورة الدم التي صرفها الآخرون؟ قبل أن تنتهي البروفة بقليل، تعلو سطوة التراجيديا أكثر، بمشهد جنازة جولييت في طريقها إلى المقبرة، فيما يعلن المخرج للممثلين إلغاء بروفة الغد، فقد وصله للتو خبر موت والدة الممثلة الغائبة بسقوط قذيفة على منزلها. انتهت البروفة، متى يبدأ العرض؟

* «عن الحرب وأشياء أخرى»: 16:30 بعد الظهر حتى 27 آذار (مارس) ـــ «مسرح الحمراء»، دمشق ـــ للاستعلام: 00963112222016




سيرة «الهندي الأحمر»

درس عروة العربي (1982) التمثيل في «المعهد العالي للفنون المسرحية»، قبل أن يتحوّل باكراً إلى الإخراج مدفوعاً برغبته في إنجاز فرجة مسرحية مغايرة. في سنوات قليلة، راكم رصيداً مسرحياً متفاوتاً في أهميته وتأثيره، مثل «هاملت»، و«مرآة»، و«منحى خطر»، و«المرود والمكحلة» إلى عمله الأخير «عن الحب وأشياء أخرى» (إنتاج المسرح القومي). وسوف تلاحقه العبارة التي أطلقها المخرج جواد الأسدي إثر مشاهدته عمله الأول «الليغرو» مثل لعنة، بقوله: «هندي أحمر يجر وراءه عربة الإخراج» لتضعه أمام أسئلة صعبة لجهة البحث والسجال مع نصوص إشكالية في إطار فرجة مسرحية تضع معطيات البيئة المحلية في صلب اهتماماتها لجهة التلقي. ها هو إذاً مخرج سوري شاب يضع لمسته الخاصة فوق الخشبة، بكامل طاقته على الحب والمغامرة.