متعة المعرفة وبؤس الجهل

  • 0
  • ض
  • ض

في كل مرة عندما تطرح عليّ أسئلة تتعلق بميدان النشر ومشاكله، أفكر لمن أكتب؟ إلى أي جمهور أتوجّه؟ ما تأثير ما أكتبه في مَن يقرأ؟ هذه الأسئلة تضعني في حيرة. أن أناقش المشكلات التي تتزايد في هذا الميدان صار يبدو لي كأنه حبر يُصرف حيث لا أحد يهتمّ، فمشكلات مثل غياب الدولة عن دعم هذه الصناعة التي طالما كانت ميزة للبنان، لا أتوقع أن تلقى أي صدى، خاصّة أن كلفة إنتاج الكتاب في لبنان ترتفع بسبب عدم وجود الحماية إلى حد ما عادت دور النشر اللبنانية قادرة على المنافسة، وترتفع كلفة التصدير بسبب إقفال الحدود البرية ولا مَن يسأل. ولا أرى أنه من المفيد كثيراً الحديث عن تراجع، أو أكاد اقول غياب النقد الذي يحتفي بالكتب الجيدة، فالصحف اليوم تعاني من أكثر مما يعانيه قطاع النشر. أما معرض الكتاب، فإنه يتحوّل إلى مهرجان لتوقيع كتب هي في غالبيتها لشخصيات سياسية وإعلامية أو شخصيات عامّة، يأتي إليها جمهور ليسجّل اسمه لدى صاحب التوقيع، لكنه لا يقرأ حتى الكتاب الذي اشتراه. أما أولئك الذين يقدّمون إبداعات حقيقيّة، فإنهم يغيبون عن هذه الصورة. مئات الكتب تصدر سنوياً بهدف حفلات التوقيع في معرض بيروت ثم بعدها تختفي ولا تجد مَن يقرأها. وهنا يمكنني أن أتحدّث عن الكثير من المظاهر التي لا تجدي طالب المعرفة نفعاً، ولا تضيف إلى قيم المعرفة والإبداع، ومنها تلك الندوات العديدة التي يحضرها الأصدقاء خجلاً والتي يعرف المرء ما سيُقال فيها، فيجلس متململاً بانتظار ساعة انتهاء الواجب. ولا أراني أحتاج إلى كثير من الجهد لتشريح أسباب عدم اهتمام الحكومات بالثقافة، ولا أسباب تراجع القراءة، بل تراجع النتاج المعرفي والإبداعي لتحلّ محله كتب الفضائح وفقه الجهالة والتعصّب. إذ يمكن اختصار تلك الأسباب بالسياسة والدين. هنا تثار الغرائز وتُهمَش قيَم الحضارة، ونصبح أمام خيارين: إما الديكتاتورية أو الفوضى والقتل. لذلك، ولمناسبة الحديث عن الكتب والنشر، سأركّز على نقطة أرى أنه يمكن القيام بشيء إزاءها، وهي مسألة تزوير الكتب. لقد بات الناشر يخاف أن ينجح عنده كتاب ويلقى إقبال جمهور القرّاء، لأن هذا الكتاب سيتعرّض للتزوير (التقليد)، ولا مَن يُحاسب. ولبنان واحد من البلدان التي تتم فيها هذه العمليات التي أقل ما يُقال فيها إنها سرقة لجهد المؤلف أولاً، ثم الناشر. فهل يمكن أن أطمح إلى لفت نقابة الناشرين ووزارة الثقافة لأن تقوما بهذا الدور الذي لا يستلزم أي ميزانيات، بل مجرّد اهتمام بمناقشة هذا الموضوع مع الناشرين لإيجاد سبل الحدّ من هذه الأعمال التي تسبب أذى كبيراً، وتترك نتائج سلبية أقلّها سرقة الحقوق. أما أخطرها، فهو عدم قدرة الناشر اللبناني على المنافسة في سوق النشر العالمي. إذا كيف يمكن لناشر أن يشتري حقوق الكتب الجيدّة وهي حقوق مرتفعة في حين أنه لا يضمن الحصول على المردود لأنه بمجرّد نجاح الكتب سيتم تزويره؟ وكيف لمؤلّف أن يصرف جهداً حقيقياً لكتابة كتاب، ثم عندما ينجح هذا الكتاب الجيّد يرى أمامه حقوقه تهدر بسبب عدم توفر الحماية؟

قد بات الناشر يخشى نجاح كتاب عنده وإقبال الجمهور عليه، لأنه سيتعرّض للتزوير
أما النقطة الأخرى التي أودّ الإشارة إليها فهي ارتفاع ثمن الكتاب، وهذا ناتج من كمية الطبع، فمعظم الكتب يُطبع منها اليوم ألف نسخة وأحياناً أقلّ. ولتوضيح هذا الأمر، أذكر حادثة واجهتها مع أحد القرّاء، فقد كنا في «دار التنوير» ترجمنا كتاباً يتألف من 1064 صفحة، ووضعنا للكتاب سعراً هو 30 دولاراً. وسألني القارئ لماذا سعر الكتاب باللغة العربية أغلى منه بلغته الأصليّة: الانكليزية. فقلت له لقد دفعنا حقوقاً لشراء الكتاب هي 5300 دولار، ودفعنا ترجمة بحدود عشرة آلاف دولار، وهذا لأنّ المترجم تبّرع بقبوله هذا المبلغ الذي هو أقل مما يستحق، ودفعنا مبلغ ستة آلاف دولار للطباعة. كل هذا عدا جهدنا نحن وبهذا صارت كلفة النسخة بحدود 21 دولاراً إذا وزّعنا هذه التكاليف على ألف نسخة كما هي الحال مع معظم الكتب. بينما الناشر الأجنبي طبع من الكتاب 30 مليون نسخة، وبالتالي هو وزّع هذه الكلفة الثابتة على هذه الملايين! وهنا أعود إلى التزوير، إذ لولا خوفنا من التزوير لطبعنا على الأقل خمسة آلاف نسخة. كل هذا ولم نتحدّث عن مشاكل الرقابة ومنع الكتب، وضعف قدرة الناشر على المغامرة مع إبداعات كتّاب جدد. ولم نتحدّث عن ضعف الانتاج الفكري خاصة باللغة العربيّة، وعن الحدود التي تفرضها الرقابات السياسيّة والدينيّة على حدود الابداع. *** لكن مع كل ذلك، ومن جهتي، أقول إن العمل في هذه المهنة متعة كبيرة، فأن تكتشف نصاً جيداً لهو متعة تفوق كل هذه المشاكل. فالسعادة التي يحسّها القارئ عندما يستشعر جمال الإبداع وعظمة المعرفة هي سعادة لا يمكن التحصّل عليها بسبل أخرى. سعادة تجعله يدرك مواطن الجمال في الحضارة الإنسانية وتخرجه من دوائر التعصّب والجهل. * مدير «دار التنوير»

0 تعليق

التعليقات