الجزائر | الكتابة بشكل عام نوع من أنواع التمرّد، يمارسه الكاتب على كلّ ما يمكن أن يشكل في نظر القارئ أو المجتمع تكريساً. هي ثورة على كلّ ما هو تقليدي. ولا نقصد بالتمرّد التعريف السائد الذي التصق بالكلمة، وإنما التمرد هو الكتابة بشكل جديد ومختلف في ثوب غير الذي اعتدناه، وبحكايات بكر غير تلك التي ألفناها. لعلّ كتاب الجزائرية الإيطالية أمل بوشارب (1984) «المتمردة» (L›anticonformista ــــ 2019. Buendia Books. Italia)، جاء ليرسّخ ويفنّد ما أردنا قوله. الذي يقرأ أعمالها بدءاً بمجموعتها القصصية العربية «عليها ثلاثة عشر» (2013 ــ منشورات «الشهاب» الجزائرية) وروايتها البوليسية «سكرات نجمة» ( 2015 ــ منشورات «الشهاب») وعملها الأخير «ثابت الظلمة» (2018 ــ منشورات «الشهاب»)، يدرك أنه أمام كاتبة لا تستسهل أبداً فعل الكتابة. إنّها تكتب لأن الكاتب داخلها أراد أن يقول شيئاً. ولهذا نلحظ أن هناك فترات متباعدة بين أعمالها. هذا ما لمحناه فيها مقارنة ببعض الكتاب والكاتبات من أبناء جيلها الذي صار الواحد منهم يكتب كلّ سنة عملاً، ويثير خلفه الكثير من الزوابع التي سرعان ما تنطفئ بفعل التراكم. هي تشتغل في نصوصها على صناعة القارئ الذي يريد أن يقرأ أدباً حقيقياً يمتّعنا كقراء. أدب مطعّم بالمعرفة، متعوب عليه لغة وسرداً وموضوعاً.عندما تقرأ «ثابت الظلمة»، تدرك أنك أمام رواية بوليسية حديثة تحمل في جعبتها الكثير من الأسرار، مثقلة بكم معرفي هائل، تسرد قصة جاسوسية متعلقة بمخطوط سري موجود في منطقة الأهقار، وتتحدث عن بارونات صائدي الكنوز. كما أنها تتطرق إلى الفساد الذي ينخر المجتمعات بدءاً بفساد المسؤولين والإدارات، انطلاقاً مما يحدث في الجزائر والكثير من القضايا الاجتماعية. نلمس ذلك أيضاً في روايتها البوليسية «سكرات نجمة» التي لا تقلّ قيمةً عن الأولى من حيث القضايا التي تتناولها في طرح بوليسي مشوق. هذا ما يدفعنا للقول بأن أمل بوشارب لم تعتمد على نمط واحد في أعمالها، وإنما انتهجت أكثر من نهج. لذا، فعملاها يندرجان ضمن ما يسمّى بالرواية المعرفية وكذلك البوليسية الحديثة (رواية «الأسرار» Thriller).
موهبة في تحويل الخيال العلمي إلى مادة دسمة لرواياتها


اللافت أيضاً في كتاباتها أنها متمكّنة من جوانب عملها من دون أن تفلت شيئاً. في بعض الأحيان، نقرأ أعمالاً عادية خالية من المعارف العلمية، ولا تحتوي على الأسرار والألغاز، لكن كاتبها فشل فشلاً ذريعاً في التحكّم بزمام نصه. لكن هذه الروائية والمترجمة الجزائرية تمتلك الصنعة، وتشتغل أيضاً عليها. تكتب بحرفية عالية تتجلّى من خلالها سعة اطلاعها، وكذلك موهبتها الفذة في تحويل الخيال العلمي إلى مادة دسمة لرواياتها، إلى جانب معالجتها قضايا اجتماعية بالغة الأهمية بأسلوب سرديّ مثير. كما أن رواياتها خالية من الزوائد والشحوم الإنشائية التي تفسد فعل الكتابة. هي بالفعل المتمردة على طقوس الكتابة، حتى استطاعت أن تخلق لنفسها مساراً يشبهها تكتب الرواية كما يكتبها الراسخون في فعل الكتابة العارفون بعوالمها وطقوسها. بيد أننا كقراء مللنا تكرار الثيمات نفسها عن قصص الحب والخيانة والمواضيع التي لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن ترفع ذائقة القارئ ولا مستواه الفكري. من هنا، تبدو أمل بوشارب مختلفة تماماً عن أبناء جيلها، فالذي يقرأ أعمالها ويقرأ أعمالاً أخرى يستطيع أن يدرك حجم الفرق.
الجميل في أعمالها أنها تترك القارئ على قارعة النهاية، محمّلاً بالكثير من الأسئلة. تتيح له المجال كي يسأل ويتساءل، وهذا هو برأيي هدف الأدب. فلا نريد أن نقرأ أدباً يفكّر بدلاً منا، وإنما نريد أن نقرأ أدباً يحثّنا على التفكير ويدعونا دائماً إلى كسر جدار الصمت بطرح الأسئلة.
حقيقة نادراً ما يشبه الكاتب نصوصه، لكن هذه الكاتبة تشبه نصوصها إبداعياً وإنسانياً. في أعمالها، تحاول دائماً أن تحترم قارئها وترفع ذائقته، فـ «هناك كتب ليست لمن يكتبها، وإنما هي لمن يعانيها» على حدّ تعبير ماركيز.