في عام 2014، أطلقت Netherlands Bach Society (مؤسسة باخ في هولندا) مشروعاً فريداً من نوعه. مشروعٌ هو الأضخم في فئته وغير مسبوق في التاريخ، يحمل اسم All of Bach (كل باخ) يمكن اختصاره بالتالي: تقديم نسخة مصوّرة عن كل أعمال المؤلف الألماني يوهان زيباستيان باخ (1685 ــــــ 1750). فكرة مجنونة أطلقتها هذه الجمعية التي تأس~ست قبل نحو قرنٍ (1921)، لكن تنفيذها ممكن ولو تطلّب الكثير من الوقت والجهود، بفضل ما أتاحته تكنولوجيا المعلوماتية لناحية خدمة الفيديو تحديداً. فمثلاً، هكذا مشروع «غير ممكن»، أو غير منطقي إذا صح التعبير، لو كان معدّاً ليصدر على الأشرطة القديمة (VHS) أو على الأقراص الرقمية (DVD) التي ورثت تلك الأشرطة. لماذا؟ لأننا سنحتاج بأقل تقدير إلى نحو 200 منها في الحالة الأولى، ونحو 100 منها في الحالة الثانية. عملياً، هذا ممكن. لكن هكذا مشروع سيكلّف ملايين الدولارات (من رواتب موسيقيين وتقنيين، إلى تأمين لوجستيات التسجيل والطبع، إلى الكتيبّات المرفقة مع كل إصدار، وصولاً إلى كل التكاليف الشكلية من مواد تصنيع العلب والأغلفة…). وإن كان أحد مستعداً لدفع هذه الملايين، فالمشكلة التي لا يمكن تجاوزها تكمن في سؤال: من سيشتري منتَجاً مماثلاً؟ لكن مع وجود يوتيوب، تبقى هذه فكرة مجنونة لكنها تصبح ممكنة.هذه ليست المرة الأولى التي يسجّل فيها «كل باخ». منذ سنتين، أصدرت «دويتشيه غراموفون» علبة مهيبة، حوت كل أعمال المؤلف الألماني وكتابَين (حياته/ موسيقاه) وآخر تحديث للكاتالوغ الذي يحوي تبويباً لهذه الأعمال، إذ أضيفت إليه بعض الكنوز المكتشفة في السنوات الأخيرة. لكن هذه المرة الأولى التي يطرح فيها أحدٌ فكرة إصدار «كل باخ» بالصوت والصورة. أكثر من ذلك، كل عمل يصوَّر وينشر على قناة يوتيوب، ينشَر بعده بيومين فيديو آخر، يظهر فيه المؤدّي (أو أبرز المشاركين في الأداء) شارحاً بأسلوب شيّق، وبسيط إلى حدٍّ ما، خبايا العمل التاريخية والموسيقية، وهذا يشكّل إضافة بارزة إلى المشروع، من شأنها أن تسهّل مقاربة المقطوعة وتزيد من حماسة المستمع.
عندما أطلق القيمون على هذه المؤسسة مشروعهم في خدمة باخ قبل مئة عام، كان الهدف الأساسي تقديم «الآلام بحسب إنجيل متى» (أضخم عمل إنشادي عند باخ، وأهم عمل في فئته تاريخياً) يوم الجمعة العظيمة، كتقليد ليتورجي/ موسيقي سنوي، في كنيسة Grote Kerk (الكنيسة الكبيرة) في منطقة شمال هولندا. أما الأهداف الأخرى للمشروع، فتبلورت لاحقاً، وهي تقريب باخ من الناس، إعداد أنشطة تربوية موسيقية، إجراء أبحاث عن أعمال باخ وحياته… بالتالي، إن المشروع الذي يسير باتجاه الإنجاز الكامل منذ ستّ سنوات، يأتي بعد تراكم كم هائل من الخبرات والشغف، وهنا نقطة قوّته الأساسية. فعندما يقرر القيمون تنفيذ عمل ما، لديهم فائض من الموسيقيين. وعندما يودّون دعوة اسمٍ كبير في مجاله للمشاركة، يكفي ذكر اسم المؤسسة لكي يطمئنّ المدعو إلى مهنية الداعي.



من هنا، يمكن أن ننتقل إلى الكلام المباشر عن المشروع. أولاً، إنه موجّه إلى الهواة (لما للصورة والشروحات من أهمية في تخفيف «وطأة» نمطٍ جديد على المستمع) وللجدّيين مهما بلغت علاقتهم بالموسيقى الكلاسيكية وباخ تحديداً من مستوى. فهؤلاء الأخيرون سيكتشفون معلوماتٍ جديدة، تاريخية وموسيقية، وكذلك ستهمّهم تسجيلات جديدة ممتازة (أي أداء جديد وعالي الجودة)، بفعل مشاركة أسماء كبيرة في المشروع، مثل عازفَي الهاربسيكورد الفرنسيَّين بيار هانتاي (المخضرم) وجان روندو (أبرز الوجوه الجديدة في مجاله). ثانياً، يعتمد الجانب الشكلي على التصوير الكلاسيكي والأنيق (وكذلك الإضاءة والتقطيع)، الذي من شأنه خدمة عملية التلقّي، بدلاً من الحركة والإثارة (من نوع «كل ثانية لقطة»)، فنرى الكاميرا تركّز على جملة بارزة لعازف ضمن الأوركسترا، أو على يدي العازف في مقطع حسّاس… ثالثاً، يجري التصوير وتنفيذ الأعمال في أماكن مختلفة، نظراً إلى طبيعة كل عمل. فمثلاً، الأعمال الإنشادية الدينية تقدّم في الكنيسة وأمام جمهور من المؤمنين (بباخ)، الأعمال الآلاتية (آلة واحدة أو أكثر) تقدّم في منزل العازف أو في أماكن أنيقة صالحة لناحية الصوت، ونادراً في قاعة حفلات (الصغيرة منها حصراً وبوجود عدد محدود من الحضور)… رابعاً، بعيداً عن الضيوف (كبار الموسيقيين العالميين)، يتولّى الهولنديون أداء العدد الأكبر من الأعمال، بدءاً من المجموعة التابعة للمؤسسة، وصولاً إلى الموسيقيين المغمورين، لكن المحترمين، الذين تكون لهم مساهمة، أحياناً يتيمة، كلٌّ بحسب اختصاصه (عازفو هاربسيكورد، أرغن كنسي، تشيلّو، كمان،…). ونجد أيضاً موسيقيين من جنسيات أوروبية عدة (إيطاليون، بريطانيون، فرنسيون، دنمركيون…) وآسيويين، مثل المدير الفني للمشروع، عازف الكمان شونسوكي ساتو، لكن القاسم المشترك بين الجميع هو اختصاصهم، إن لم يكن في باخ، ففي حقبة الباروك عموماً. خامساً، يُنشر العمل كاملاً، دفعةً واحدةً، مهما طالت أو قصرت مدّته، لكن الأعمال التي تندرج تحت عنوان جامع يتم تقسيمها. سادساً، المقاربة الفنية هي تقليدية أمينة، أي استخدام الآلات الأصلية التي كتب لها باخ هذه الموسيقى في الأصل. مثلاً: لا وجود إطلاقاً لآلة البيانو في المشروع. حتى بعض الآلات التي باتت نادرة جداً يتم تأمينها وانتداب العازف الأكثر قدرة على اللعب عليها (مثلاً، هناك نوع من التشيلّو لم يعد يستخدم اليوم، يتمرّن عازف تشيلّو عليه كي يعتاد على خصوصيته التقنية، وبعدها ينتقل إلى التسجيل). سابعاً، كل الفيديوهات المرتبطة بالأعمال الموسيقية، والتي يتكلّم فيها موسيقي (وأحياناً أكثر) لشرح بعض ملامح العمل الذي أداه أو شارك في أدائه، مرفقة بترجمة إلى الإنكليزية.
المشروع موجّه إلى الهواة والجدّيين مهما بلغت علاقتهم بالموسيقى الكلاسيكية

علماً أن اللغة المسموعة هي الهولندية بشكل أساسي. ثامناً، بعد ست سنوات، يقف المشروع اليوم عند ربع الطريق من نهايته، إذا استمر العمل بالوتيرة ذاتها. أي، إن بدأتم بمتابعته، سيرافقكم لغاية عام 2040، وفي الوقت عينه، يمكنكم الرجوع إلى ما قدّمته المؤسسة لغاية اليوم، عبر موقعها الرسمي على الإنترنت (موقع أيضاً جميل شكلاً والتعامل معه سهل جداً) والبحث بحسب اسم العمل أو رقمه في كاتالوغ باخ (رقم الـBWV) أو اسم الموسيقي أو نوع العمل أو حتى الآلة. فمسار النشر لا يتبع أي ترتيب (زمني أو حسب الفئة)، ويمكن نشر عمل ديني، تليه مقطوعة للأرغن، يليها عمل أوركسترالي. علماً أنه أحياناً تتم إعادة نشر عمل ما (أو مقتطفات منه) لمناسبة محددة («أوراتوريو الميلاد» في زمن الميلاد، «الآلام» في زمن الفصح…). أما خارج هذا المشروع، فما زالت المؤسسة تقدّم «الآلام بحسب إنجيل متى» في «الكنيسة الكبيرة»، بحسب تقليد عام 1921، في حين نشرت ضمن «كل باخ» تسجيل عام 2014.
بعد القبلة على جبين هؤلاء الملائكة الذي يخدمون معلّمنا باخ، وبما أنه ليس من أصول هذا الزمن عدم ذكر السيد كورونا في أي مقالة، فنشير إلى أن الوباء العالمي لم يؤثر على وتيرة النشر، إذ أن معظم الفيديوهات التي تُنشَر يعود توثيقها إلى السنوات الست الماضية، وهي تخضع للمعالجة (الصوت، الصورة، التقطيع،…) تباعاً. بالتالي، لدى المؤسسة خزّان من «المواد الخام»، في حين أن معالجتها التقنية لا تتأثر بالحجر… إلّا إيجاباً.

المقال المقبل: كل سوناتات البيانو لبيتهوفن

الموقع الرسمي على الإنترنت: www.bachvereniging.nl/en