يستعيد كراري في «7/24: الرأسماليّة المتأخرة ونهاية النّوم» (verso books ـــــ 2014) لحظة تاريخيّة مماثلة من بدايات العصر الرأسماليّ انتصر فيها تحالف الأثرياء وصنّاع التكنولوجيا على الأفراد، فسرقوا من أعينهم النوم. تلك اللحظة سجلّها الفنان الرومانتيكي الشهير جوزيف رايت في لوحة «محالج آركرايت للقطن ليلاً» (1782). هناك نرى في فضاء ليل مظلم، حيث يكاد القمر يتوارى خلف الغيوم مبنى مكعباً بلا شخصيّة من خمسة طوابق، نوافذه جميعاً مضاءة. ذلك كان محلجاً للقطن في وقت أصبحت فيه صناعات العصر الجديد حينها تعمل على مدار السّاعة طوال أيّام الأسبوع، فيما يُنظّم الأجراء في مجموعات تعمل بنظام ورديات كلّ منها 12 ساعة. لحظتنا المعاصرة لا تكتفي بمدّ وقت العمل بلا حدود، بل أيضاً تغرينا بقضاء وقت كثير في الاستهلاك المحض لمنتجات الترفيه والتسكّع في الأسواق الافتراضية، وعمل المزيد من طلبات الشراء وقوائم التمنيّ. بل وربّما يكون القادم أكثر تعسّفاً، حيث علماء الجيش الأميركي يجرون أبحاثاً معمقة حول دماغ طائر الدوريّ ذي التاج الأبيض الذي يتمكّن استثنائياً من البقاء مستيقظاً لسبعة أيّام متتالية خلال مواسم الهجرة، وربما يجدون قريباً مادة كيمائيّة تمكّن الجنود من ترك النوم نهائياً في المهمات الحاسمة، ويتم تبيّنها تجارياً لاحقاً للعمّال، وربما المستهلكين العاديين (لمشاهدة عدة مواسم متلاحقة من «صراع العروش» مثلاً). النوم مكلف بالنسبة إلى الرأسماليين، وكل دقيقة ينجحون في سرقتها منّا، تتحول إلى دولارات في صندوق الأرباح.
مقاربة كراري ليست معنية بالزيادة العدديّة لساعات اليقظة على حساب ساعات النوم بقدر ما هي مرافعة شديدة اللهجة ضد تلاشي الحدود بين الحالين، ومعهما الحدود بين النهار والّليل، والضوء والظلمة، والوقت العام والخاص، وبين العمل والراحة. ففي تلك المساحة الباهتة البين - بين، يفقد الإنسان القدرة على الإحساس السليم، وتتراجع فرصه في اختبار تجارب العيش إلى آخرها. لقد أجهزت الرأسماليّة على النّوم، وقضت معه على إحساس الإنسان المعاصر بالوقت وتعاقب إيقاعات الطبيعة، وحوّلته التّقنيات الحديثة إلى ما يشبه عبداً مبرمجاً مسجوناً في قفص افتراضي.
أجهزت الرأسماليّة على إحساس الإنسان المعاصر بالوقت
لا يجد كراري مع ذلك مخرجاً للفرار من فخّ التكنولوجيا. فقد أقلع القطار ولم يعد ممكناً النّزول منه الآن، كما لم يعد لأحد تقريباً أن يختار العزلة التّامة عن محيطه الافتراضي. وهو لا يراهن كثيراً على قدرة الرأسماليين على حساب التأثيرات السلبيّة على إنتاجيّة عملهم نتيجة الإرهاق المزمن الذي سيصيب موظفيهم نتيجة قلّة النوم، على الرّغم من أن مفكرين آخرين قالوا بأن أزمة الرأسماليّة القادمة ستبدأ تحديداً من تلك اللحظة عندما توقف الأرباح عن النمو لدى وصول الإنتاجيّة (والاستهلاك أيضاً) إلى حدودهما القصوى. وهو أيضاً يستبعد المقاومة من داخل القفص بذات أدوات التكنولوجيا عبر صياغة استجابات وأساليب تهرّب أو تحكّم بالوقت الذاتي سواء عن طريق الخداع الإلكتروني أو من خلال أدوات تنظيم الوقت، ويعتبرها بلا فائدة مستدامة ومعركة سيخسرها الفرد حتماً في مواجهته مع النظام. ولذا فهو يقترح كسر النظام الرأسمالي وإنهاكه عبر بوابة النّوم تحديداً، وهو يورد مقاطع أدبيّة من كافكا وتاركوفيسكي وكريس ميللر وفيليب دك تمتدح الهجوع والغفو العميق، معتبراً أن النوم كثيراً ما كان فعل مقاومة وتمرّد على العمل والحياة، وفضاء للحلم بعالم أفضل.
النّوم وحده ـــــ يقول كراري ـــــ يمنحنا القدرة على التّحليق خارج القفص الاجتماعيّ المعاصر.
جدل كراري في «7/24: الرأسماليّة المتأخرة ونهاية النّوم» يبدو اليوم حدثياً ولحظياً في عالم ما بعد وباء كورونا. إذ أن قرار بعض الحكومات فرض عزلة منزليّة على المواطنين قد تستمر أشهراً، ودفعها موظفي الشركات لمزاولة أعمالهم عن بعد عبر تكنولوجيا الاتصالات قد تعني أن مزيداً من الضغوط قد تُفرض على وقت الأفراد العاملين من بيوتهم، فيما قد يتسبّب طول العزلة في التورط بمزيد من استهلاك المواد الإعلاميّة والبصريّة، كما التبضع الإلكتروني. لكننا لن نُهزم ما دمنا نقاوم. ونومنا وحده ـــ كما يقول كراري ــــــ فعل المقاومة والتمرّد الذي يملكه فاقدو الحريّة.