قد تدفن جثث الضحايا. قد تختفي آثار الدمار التي تركتها الحروب المتتالية التي عاشتها المنطقة ولما تزل. لكن هل تختفي ذاكرة العنف والقتل من اللاوعي الفردي أو حتى الجماعي المتوارث؟ الأشياء التي ندفنها داخلنا، ستلاحقنا من جيل إلى آخر، من حياة إلى أخرى. هذا ما يحاول فيليب عرقتنجي أن يثبته لنفسه في الدرجة الأولى، ثم للمشاهد في فيلمه الجديد «ميراث» الذي يطرح هذا الأسبوع في الصالات اللبنانية.
إنّها رحلة عبر الزمن حيث يروي لنا المخرج اللبناني سيرة نزوح عائلته وتهجيرها من تركيا إلى سوريا ومنها إلى لبنان منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم. ألبوم عائلي أو وثائقي درامي. يتنقّل عرقتنجي بين الأنواع السينمائية منذ بداياته في وثائقي مع «من عيون الأمهات» (1992) و«بيروت من أحجار وذكريات» (1993) إلى فيلمه الروائي الأول «بوسطة» (2005/2006) ثم «تحت القصف» (2008) الذي حصد جوائز عدة.
في «ميراث»، يسعى إلى المزج بين الروائي والوثائقي، وبين الخاص والتاريخي. أراد أن يقدم طرحاً سينمائياً مختلفاً (يقول مازحاً بأنّ فيلمه قد يشبه مفهوم «المازة» اللبنانية بمزجه بين الأساليب السينمائية المختلفة). قد تكون إحدى السمات التي تميز «ميراث» أنّ مخرجه متمرّس أيضاً في السينما الروائية. يلعب عرقتنجي باحتراف على تلك المساحة بين الخاص والمتخيّل، محوّلاً نفسه وزوجته وأولاده إلى أبطال هذه الدراما التي هي حياته. يغادر المخرج موقعه من وراء الكاميرا، ليكشف للمشاهد تفاصيل عن نفسه وحياته العائلية والخاصة. هي مغامرة بالطبع لا تخلو من الخوف كما يقول. لكنه كان مستعداً لخوضها في هذه المرحلة من حياته ومسيرته. وإذا كان عرقتنجي ماثلاً أمام الكاميرا، إلا أنّ المخرج داخله متيقظ دوماً يدير الممثل الذي هو نفسه وبقية الشخصيات بسلاسة إلى المكان الذي يريده حتى أطفاله، خصوصاً أصغرهم الطفلة إيف.
يتتبع رحلة تهجير عائلته منذ أن هربت جدته من تركيا إلى سوريا على متن باخرة عسكرية إلى الهجرة التي تلتها من سوريا إلى لبنان إبان الفترة الناصرية، بحثاً عن بلد أكثر انفتاحاً وترحيباً بالمسيحيين وصولاً إلى ترحاله على متن الباخرة صوب فرنسا برفقة زوجته الفرنسية اللبنانية وأولاده أثناء حرب تموز 2006. قد تكون سيرة الهجرة العائلية للمخرج تعبّر عن تاريخ المنطقة العربية لكنّها تعبّر بشكل خاص عن معاناة أقلية في الشرق هم المسيحيون، ولو أنّ حرب تموز لا تندرج مباشرة في سياق حتمية الهجرة التي يتناولها المخرج. على أي حال، ليست اختيارية الهجرة أو اضطراريتها هي موضع النقاش، مع أنّ المخرج يحاول تبريرها في مقطع من الفيلم حين تخبره زوجته وهي على متن الباخرة عن شعورها بالسوء، لأن خيار الرحيل يعود فقط إلى فئة محظوظة من اللبنانيين تنتمي هي إليها. لكن لا حاجة فعلية للتبرير، فخصوصية هذا الميراث العائلي الذي يتناوله عرقتنجي سواء بانتمائه الديني أو الطبقي الذي يعرضه بصراحة للمشاهد من دون محاولة للتواري أو التخفي، هي نقطة قوة الفيلم التي ترتكز عليها مصداقيته.
قد لا يتماهى المشاهد الآتي من خلفيات اجتماعية أو دينية أو حتى علمانية مع خصوصية السيرة العائلية لعرقتنجي.
لكنه سيشاركه تساؤله الذي هو نقطة انطلاق الفيلم أو رحلة العودة في الزمن: هل هي مصادفة أن يعيد التاريخ نفسه؟ وهل لنا أن نوقف حلقة التكرار المفرغة للحرب والهجرة؟ هذا الميراث المؤلم الذي يعيش في الذاكرة الجماعية للبنانيين. الشفاء من الماضي لدى عرقتنجي يكمن في الاعتراف به، وبروايته لأطفاله، على أمل أن يحرّرهم من عبء هذا الميراث المتناقل بطريقة خفية من جيل إلى آخر. عبر المؤثرات الخاصة التي صنعت كلها في لبنان، واستغرقت وقتاً طويلاً بسبب صعوبة تنفيذها بدقة كما يخبرنا المخرج. يخرج عرقتنجي الذاكرة من ثباتها ويبث فيها الحياة مرة أخرى. نرى ذلك مثلاً في المشهد الذي يتجول فيه ابنه داخل الصور الفوتوغرافية للحرب الأهلية، وهو يمثّل دور والده لما كان مراهقاً. عالم مركب وغريب وممتع تختلط فيه الأزمان والحيوات يأخذنا إليه المخرج ولو طغت عليه المثالية الحالمة أحياناً. يظهر ذلك على سبيل المثال في مشهد المنطاد الذي ينتهي به الفيلم والسعادة التي تغمر الجميع. لكن ذلك يتفق مع الأسلوب الروائي الذي يعتمده المخرج في لقطات أخرى في الفيلم، تتشابه مع قصص الأطفال الذين يهديهم عرقتنجي الفيلم كما يظهر في جينيريك البداية: «إلى أولادنا».

«ميراث» بدءاً من الخميس المقبل في الصالات اللبنانية




أرشيف فوتوغرافي

يفرض أطفال فيليب عرقتنجي أحياناً تساؤلاتهم الخاصة على المخرج. علاقة تبدو بسيطة بعفويتها، لكنها أيضاً معقدة، يبنيها المخرج بخاصة مع أطفاله عبر العدسة التي يتفاعلون معها بحرية وطلاقة كأنها جزء من حياتهم اليومية، أو حتى من علاقتهم ــ حتى العاطفية ــ مع أبيهم الذي لم يعتادوا رؤيته من دونها منذ صغرهم، كما يفسّر لنا عرقتنجي. العلاقة مع الصورة عبر الفوتوغرافيا أو السينما هي الهاجس الأساسي للمخرج الذي يعيد في «ميراث» إحياء تاريخ عائلته المرتبط بتاريخ المنطقة والصراعات والانقسامات التي شهدتها منذ الحقبة العثمانية عبر الأرشيف الفوتوغرافي الذي جمعه من مصادر عدة من فرنسا وأميركا ووزارة السياحة في لبنان.